المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أيها الناس! لا تكونوا من القانطين ولا من اليائسين. الشيخ: فؤاد أبو سعيد حفظه الله


أسامة خضر
05-25-2012, 04:00 PM
أيها الناس!
لا تكونوا من القانطين من رحمة الله
ولا من اليائسين مما عند الله

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسلَه بالحقِّ بشيرًا ونذيرًا بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رَشَد، ومن يعصِهما فإنه لا يضرُّ إلا نفسه، ولا يضرُّ الله شيئا.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (النساء: 1).
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (آل عمران: 102).
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (الأحزاب: 70، 71)

أيها الناس! لا تكونوا من القانطين من رحمة الله، ولا من اليائسين مما عند الله، فالقُنوطُ هزيمةٌ للعزائم، واليأسُ محبطٌ للهمم، وسببهما فقْدُ الأمن وانعدامُ الرجاء، وهذه من صفات المشركين والمنافقين، ومن ضَعُفَ إيمانُهم بالله، واضمحلَّ توحيدُهم بربِّهم، وقلَّ إخلاصُهم في صالح أعمالهم.

فالكفار قنطوا من الآخرة؛ لأنهم بها لا يؤمنون، وبآيات الله هم كافرون، ولرحمة الله لا يرجون، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (العنكبوت: 23) فـ{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} (الممتحنة: 13).

والمشركون يئسوا من الجنة؛ لأنهم جعلوا مع الله آلهة أخرى، أشركوها في عبادته، يرجونها وعليها يتوكلون، وإليها بالحلف والذبائح والتعظيم يتقربون، ويخافون منها ويخشونها أكثر من خوفهم من الله، ويرفعون أكفَّ الضراعة عندها داعين، وإليها راغبين، وحول القبور والأضرحة طائفين، وبين أيدي مشائخهم يحلقون رؤوسهم، ومن ذكر الله تشمئز قلوبهم، وبغير ذكر الله تستبشر وتنشرح صدورهم، {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} (الزمر: 45).
فالمشرك قال عنه الله: {الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ} (ق: 26) والمشركون مفتونون مفترون ضالون، يكذبون على أنفسهم، وينكرون أنهم مشركون، {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ* ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ* انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} (الأنعام: 22- 24).

وبعد أن أمرنا الله سبحانه بإقامة الدين الحنيف، والإنابة إليه، وتقواه وإقام الصلاة قال سبحانه: {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ* مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (الروم: 30- 32).
يئسوا من الآخرة، وفرِحوا بأحزابهم وفُرقتِهم في دينهم، وينسَون فِرَقَهم وأحزابهم عند الشدائد والمصائب، ويعرِضون الله وعن دين الله؛ إذا فرَّجَ اللهُ عنهم الهمَّ والضرَّ، قال لهم الله جل جلاله: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا} (الإسراء: 67).

والمنافقون قنَطوا مما عند الله سبحانه، فقلوبهم غارقة بالشكِّ في دين الله، وصدورُهم طافحةٌ بالريبِ من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقلوبُهم مكذبة ومبغضة لما حاء عن الله، كارهةٌ لنصر دين الله، وفَرِحةٌ لهزيمة المؤمنين بالله، {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} (إبراهيم: 43).
يتَّهمون المؤمنين المتوكلين على الله بالغفلة والغِرَّة، {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (الأنفال: 49) {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا} (الأحزاب: 12).

وإبليسُ أوَّلُ مَن يئِس من إدخالِ آدمَ وبنيه المخلصين النارَ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِه وَسَلَّمَ: "إِذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ فَسَجَدَ اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي، يَقُولُ: يَا وَيْلَهُ -وَفِي رِوَايَةِ أَبِي كُرَيْبٍ: يَا وَيْلِي- أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ فَأَبَيْتُ فَلِيَ النَّارُ" صحيح مسلم (81).
ويئسَ هو وجندُه من إيقاعِ الشِّركِ في قلوبِ أُمَّةِ محمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم؛ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: (لَمَّا افْتَتَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ؛ رَنَّ إِبْلِيسُ رَنَّةً اجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ جُنُودُهُ، فَقَالَ: ايْئَسُوا أَنْ نُرِيدَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ عَلَى الشِّرْكِ بَعْدَ يَوْمِكُمْ هَذَا، وَلَكِنِ افْتُنُوهُمْ فِي دِينِهِمْ، وَأَفْشُوا فِيهِمُ النَّوْحَ). المعجم الكبير للطبراني (12/ 11، 12318)، الصحيحة (3467).

وعَنْ جَابِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ». مسلم (2812)

إنها جزيرةُ العربِ حفظها الله من شياطين الإنس والجنِّ، فقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِه وَسَلَّمَ: "إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ تُعْبَدَ الأَصْنَامُ بِأَرْضِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ سَيَرْضَى مِنْكُمْ بِدُونِ ذَلِكَ، بَالْمَحَقَّرَاتِ؛ وَهِيَ الْمُوبِقَاتُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَاتَّقُوا الْمَظَالِمَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَإِنَّ الْعَبْدَ يَجِيءُ بِالْحَسَنَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُو يَرَى أَنْ سَتُنَجَّيهِ، فَمَا زَالَ عَبْدٌ يَقُومُ يَقُولُ: (يَا رَبِّ ظَلَمَنِي عَبْدُكَ فُلانٌ بِمَظْلِمَةٍ)" قَالَ: "فَيَقُولُ: (امْحُوا مِنْ حَسَنَاتِهِ)"، قَالَ: فَيَقُولُ: "فَمَا زَالَ كَذَلِكَ حَتَّى لا يَبْقَى مَعَهُ حَسَنَةٌ مِنَ الذُّنُوبِ، وَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَسَفْرٍ نَزَلُوا بِفَلاةٍ مِنَ الأَرْضِ، لَيْسَ مَعَهُمْ حَطَبٌ، فَتَفَرَّقَ الْقَوْمُ لِيَحْتَطِبُوا، فَلَمْ يَلْبَثُوا أَنِ احَتَطَبُوا، وَأَنْضَجُوا مَا أَرَادُوا"، قَالَ: "وَكَذَلِكَ الذُّنُوبُ". شعب الإيمان (9/ 404، رقم 6877) وهذا لفظه، ورواه أبو يعلى من طريق إبراهيم بن مسلم الهجري عن أبي الأحوص عن ابن مسعود ورواه أحمد والطبراني بإسناد حسن نحوه باختصار. وصححه لغيره في صحيح الترغيب (2/ 263، رقم 2221).

وضعافُ الإيمان من هذه الأمَّة؛ إذا ابتعدوا عن ذكر الله، وغَفَلوا عن طاعة الله، أو وقعوا في معاصٍ تغضبُ الله، أو إذا ابتلاهم الله ببعض المصائبِ الدنيوية؛ من مرضٍ أو فقدِ ولدٍ، أو مالٍ ونحو ذلك؛ تسرَّب القُنوطُ إلى صدورهم، وتسلَّل اليأسُ إلى نفوسهم.

أمَّا المؤمنُون الذي تأخَّرَ عنه الإنجاب مثلا؛ لا يقنطون مما عند الله، ولو كان بلغَ بهم الكبَرُ عتيًّا، فيقتدون بخليل الله إبراهيمُ عليه السلام، فهو مع كِبَر سنِّه، وابيضاضِ شعرِه، تزوره ملائكة الرحمن، وتبشِّره بولد يولد له، {قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ* قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ* قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ} (الحجر: 53، 56).

فما قنطَ إبراهيم عليه السلام من رحمة الله، ولكنه قنت لله، لم يكن إبراهيم عليه السلام من القانطين؛ بل كان من القانتين، شهدَ له بذلك أرحم الراحمين، القائل: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* شَاكِرًا لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ* وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} (النحل: 120- 122).

جاءت البشرى إبراهيم عليه السلام؛ {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} (هود: 71)، وهذه هي سارَّة أمُّ إسحاق عليه السلام العجوز العاقر رضي الله تعالى عنها لمْ تقنطْ من رحمة الله أنْ يرزقَها ولدًا، ولكنها تعجَّبت؛ كيف تنجبٌ وهي في هذه السن؟!! فـ{قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ* قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} (هود: 72، 73).

ونبيُّ الله زكريَّا أبو يحيى عليهما السلام مع كِبَرِ سِنِّه، واشتعال رأسه شيبا، وعُقْمِ زوجته؛ لم ييأس أنْ يدعوَ اللهَ الوهابَ أن يهبَ له ذريَّة، {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا* قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا* وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا* يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا* يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا* قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا* قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} (مريم: 3– 9).

ويعقوبُ عليه السلام لم ييأسْ من فقْدِ ولدِه يوسف عليه السلام، وإن كانت المدَّةُ طويلةً، والعهدُ بعيداً، فقال لأولاده: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} (يوسف: 87).

فالأنبياء لا ييأسون من رَوْحِ الله، ولكنَّهم قد يستيئسون من إيمان أممهم وأقوامهم، قال سبحانه: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} (يوسف: 110).



فهو سبحانه [... يرسلُ الرسلَ الكرام، فيكذِّبهم القوم المجرمون اللئام، وأن الله تعالى يمهلهم ليرجعوا إلى الحقّ، ولا يزال الله يمهلهم حتى إنَّه تصل الحالُ إلى غاية الشدة منهم على الرسل.



حتى إنَّ الرسلَ -على كمالِ يقينِهم، وشدةِ تصديقِهم بوعدِ الله ووعيدِه؛- ربَّما أنه يخطُر بقلوبهم نوعٌ من الإياس، ونوعٌ من ضعفِ العلمِ والتصديق، فإذا بلغَ الأمرُ هذه الحالَ {جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} وهم الرسلُ وأتباعُهم، {وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} أي: ولا يردُّ عذابنا، عمَّن اجترم وتجرَّأ على الله، {فما له من قوة ولا ناصر}] تفسير السعدي أو تيسير الكريم الرحمن (ص: 407).



أمَّا الناس من عموم المسلمين فلهم حالان، حالُ شرْكٍ ونسيان وإعراض عن الله عند نزول الرحمة والخيرات عليه، وحالُ التجاءٍ ودعاءٍ وتضرُّعٍ وإنابةٍ عند الشدة والبأساء؛ حالُ فرحٍ بالرحمة، وحالُ يأسٍ وقنوطٍ بالمصيبة والنقمة، {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ* لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ* أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ* وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} (الروم: 33– 36).



فيا عبادَ الرحمن؛ [رجاءُ مَا لَدَيْهِ؛ لا يُبْتغَى بعد الْيَأْس من رَوح الله] من (الكتابة والتعبير ص: 161)، فلا تقنطوا من رحمة الرحمن، فهو الرحمن الرحيم، {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ* وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ* وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ* وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} (الشورى: 25- 28).



وإذا نظرنا إلى الإنسان فنجدُه دائمَ الدعاء؛ أحيانا بالخير وأحيانا بالشر {وَيَدْعُ الإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً} (الإسراء: 11) [يدعو الإِنْسَانُ عَلَى مَالِهِ وَوَلَدِهِ وَنَفْسِهِ بِالشَّرِّ، فَيَقُولُ عِنْدَ الْغَضَبِ: (اللَّهُمَّ الْعَنْهُ وَأَهْلِكْهُ وَنَحْوَهُمَا)، دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ، أَيْ: كَدُعَائِهِ رَبَّهُ بِالْخَيْرِ؛ أَنْ يَهَبَ لَهُ النِّعْمَةَ وَالْعَافِيَةَ، وَلَوِ اسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ عَلَى نَفْسِهِ لَهَلَكَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَجِيبُ بِفَضْلِهِ، وَكانَ الإِنْسانُ عَجُولا بِالدُّعَاءِ عَلَى مَا يَكْرَهُ أَنْ يُسْتَجَابَ لَهُ فِيهِ. قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ =عجولا=: ضَجِرًا لا صَبْرَ لَهُ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ]. تفسير البغوي ط إحياء التراث (3/ 123).

هذا هو الإنسان {إِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} (العاديات: 8). فـ{لا يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ* وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ* وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} (فصلت: 49- 51).

فاليأسُ يسرعُ إلى قلبِه عندما يُسلبُ منه شيئاً من الخير؛ ابتلاءً واختبارا، {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ* وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ* إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} (هود: 9- 11).

فهو بين الهَلَع، والجزَعِ والمنْع، قال سبحانه: {إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا* إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا* وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا* إِلاَّ الْمُصَلِّينَ} (المعارج: 19- 22).



فليكثرِ العبدُ من دعاءِ الله، ولا ييأسْ إذا تأخرت الإجابة، فالدعاء عبادة، وقد قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «إِنَّهُ مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ» سنن الترمذي (3373)، وصحيح الجامع (2418)



لماذا (يغضب عليه)؟! لأنه إمَّا قانطٌ وإمّا متكبِّرٌ، وكلُّ واحد من الأمرين موجبُ الغضب، قال بعض المفسرين في قوله تعالى: {إن الذين يستكبرون عن عبادتي} أي عن دعائي. فهو سبحانه يحبُّ أن يُسألَ، وأنْ يُلَحَّ عليه، ومن لم يسألْه يُبْغضْه، والمبغوضُ مغضوب عليه.



قال ابن القيم: (وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رِضَاءَهُ فِي سُؤَالِهِ وَطَاعَتِهِ، وَإِذَا رَضِيَ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَكُلُّ خَيْرٍ فِي رِضَاهُ، كَمَا أَنَّ كُلَّ بَلاءٍ وَمُصِيبَةٍ فِي غَضَبِهِ).

والدعاء عبادة، وقد قال تعالى: {إن الذين يستكبرون عن عبادتي =أي عن عبادتي= سيدخلون جهنم داخرين}، فهو تعالى يغضب على من لم يسألْه كما أن الآدميَّ يغضبُ على من يسألُه.

وَاللهُ يَغْضَبُ إِنْ تَرَكْتَ سُؤَالَهُ ... وَبُنَيُّ آدَمَ حِينَ يُسْأَلُ يَغْضَبُ

فشتَّان ما بين هذين، وسحقًا لمن علَّق بالأثر وأبعدَ عن العين.

قال الحليمي: (وإذا كان هكذا؛ فما ينبغي لأحد أن يُخْليَ يوما وليلة من الدعاء؛ لأنَّ الزمَنَ يومٌ وليلةٌ، وما وراءهما تكرارٌ، فإذا كان ترك الدعاء أصلا يوجب الغضب؛ فأدنى ما في تركه يومٌ وليلة؛ أنْ يكونَ مكروها)...] من فيض القدير (3/ 12).

فـ«لَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ مَا عِنْدَ اللهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ، مَا طَمِعَ بِجَنَّتِهِ أَحَدٌ. وَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ مَا عِنْدَ اللهِ مِنَ الرَّحْمَةِ، مَا قَنَطَ مِنْ جَنَّتِهِ أَحَدٌ». مسلم (2755)

[(لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد)؛ وذلك لما يشهده من جلالِ الحقِّ سبحانه، ويخشاه من انتقامه، وهو العدْلُ في جميع ذلك، (ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط) من القنوط .. وهو الإياس (من رحمة الله)]. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين لابن علان (4/ 358، رقم 1443).

عبادِ الله! «بَشِّرُوا وَلا تُنَفِّرُوا، وَيَسِّرُوا وَلا تُعَسِّرُوا». مسلم (1732). [(بَشِّرُوا) .. النَّاسَ بِقَبُولِ اللَّهِ الطَّاعَاتِ وَإِثَابَتِه عَلَيْهَا، وَتَوْفِيقِه لِلتَّوْبَةِ مِنَ الْمَعَاصِي، وَعَفْوِهُ وَمَغْفِرَتِهُ (وَلا تُنَفِّرُوا) .. أَيْ لا تُخَوِّفُوهُمْ بِالْمُبَالَغَةِ فِي إِنْذَارِهِمْ؛ حَتَّى تَجْعَلُوهُمْ قَانِطِينَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ بِذُنُوبِهِمْ وَأَوْزَارِهِمْ، (وَيَسِّرُوا) أَيْ سَهِّلُوا عَلَيْهِمُ الأُمُورَ مِنْ أَخْذِ الزَّكَاةِ =وغير ها من أمور الدين= بِاللُّطْفِ بِهِمْ، (وَلا تُعَسِّرُوا) أَيْ بِالصُّعُوبَةِ عَلَيْهِمْ؛ بِأَنْ تَأْخُذُوا أَكْثَرَ مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَوْ أَحْسَنَ مِنْهُ أَوْ بِتَتَبُّعِ عَوْرَاتِهِمْ وَتَجَسُّسُ حَالاتِهِمْ] عون المعبود وحاشية ابن القيم (13/ 124).

قال ابن عثيمين: [فينبغي؛ بلْ يجبُ أن يكون سيرُ الإنسانِ إلى الله عزَّ وجلَّ دائراً بين الخوفِ والرجاء، لكنْ أيُّهما يغلِّب؟ هل يغلِّبُ الرجاء؟ أو يغلِّبُ الخوف؟ أو يجعلُهما سواء؟

قال الإمام أحمد -رحمه الله-: ينبغي أن يكونَ خوفُه ورجاؤه واحداً، فأيُّهما غلَبَ هلك صاحبُه؛ لأنَّه إنْ غلَّب جانبَ الرجاء؛ صار من الآمنين من عذاب الله، وإن غلَّب جانبَ الخوف؛ صارَ من القانطين من رحمة الله، وكلاهما سيِّءٌ، فينبغي أن يكون خوفُه ورجاءؤه واحداً]. شرح رياض الصالحين (3/ 286).



كيف تقنط يا عبد الله من رحمة الله؟ و"إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: يَا عَبْدِي! مَا عَبَدْتَنِي وَرَجَوْتَنِي، فَإِنِّي غَافِرٌ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ، وَيَا عَبْدِي! إِنْ لَقِيتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطِيئَةً، مَا لَمْ تُشْرِكْ بِي، لَقِيتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً " مسند أحمد (35/ 296، رقم 21368)، ونحوه في صحيح الجامع (4341).



والقانط من رحمة الله من الثلاثة الهالكين، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "... ثَلاثَةٌ لا تَسْأَلْ عَنْهُمْ =[أي فإنهم من الهالكين] فيض القدير (3/ 324) فمن هم؟=: رَجُلٌ نَازَعَ اللَّهَ رِدَاءَهُ؛ فَإِنَّ رِدَاءَهُ الْكِبْرِيَاءُ، وَإِزَارَهُ الْعِزَّةُ، =[فمن تكبَّر من المخلوقين، أو تعزَّزَ؛ فقد نازعَ الخالقَ سبحانَه رداءَه وإزارَه الخاصَّين به، فله في الدنيا الذلُّ والصَّغار، وفي الآخرة عذابُ النار] فيض القدير (3/ 325)، والثاني من الهالكين= وَرَجُلٌ شَكَّ فِي أَمْرِ اللَّهِ، =أي شك وارتاب بما أخبر به الله، ومن أسباب الهلاك:= وَالْقَنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ" مسند أحمد (39/ 368، رقم 23943)، وانظر الصحيحة (542).

جاء رجل فقَالَ: (يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا الْكَبَائِرُ؟) قَالَ: "الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالإِيَاسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ، وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، فَهَذِهِ الْكَبَائِرُ؛ مَنْ وَقَاهُ اللَّهُ إِيَّاهَا، وَعَصَمَهُ مِنْهَا؛ ضَمِنْتُ لَهُ الْجَنَّةَ". التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (5/ 77)، والبزار عن ابن عباس. وانظر الصحيحة (2051).



**الخطبة الثانية**

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن ولاه إلى يوم الدين، أما بعد؛

كيف تقنط من رحمنٍ رحيم، رؤوفٍ ودود، غفورٍ حميد؟! عَنْ أَبِي الضُّحَى قَالَ: اجْتَمَعَ مَسْرُوقٌ وَشُتَيْرُ بْنُ شَكَلٍ فِي الْمَسْجِدِ، فَتَقَوَّضَ إِلَيْهِمَا حِلَقُ الْمَسْجِدِ، =أي اجتمعوا عليهما= فَقَالَ مَسْرُوقٌ: (لا أَرَى هَؤُلاءِ يَجْتَمِعُونَ إِلَيْنَا؛ إِلاَّ لِيَسْتَمِعُوا مِنَّا خَيْرًا، فَإِمَّا أَنْ تُحَدِّثَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ؛ فَأُصَدِّقَكَ أَنَا، وَإِمَّا أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ؛ فَتُصَدِّقَنِي؟) فَقَالَ: (حَدِّثْ يَا أَبَا عَائِشَةَ!) قَالَ: هَلْ سَمِعْتَ عَبْدَ اللَّهِ يَقُولُ: "الْعَيْنَانِ يَزْنِيَانِ، وَالْيَدَانِ يزينيان، وَالرِّجْلانِ يَزْنِيَانِ، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كله ويكذبه!". فقال: (نعم!) قال: (وأنا سمعته). قال: فَهَلْ سمعتَ عَبْدَ اللَّهِ يَقُولُ: "مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَجْمَعَ لِحَلالٍ وَحَرَامٍ وَأَمْرٍ وَنَهْيٍ، مِنْ هَذِهِ الآيَةِ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى}؟" (النحل: 90). قال: (نعم! وأنا قد سمعته). قال: فَهَلْ سَمِعْتَ عَبْدَ اللَّهِ يَقُولُ: "مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَسْرَعَ فَرَجًا مِنْ قَوْلِهِ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا}؟" (الطلاق: 2). قَالَ: (نَعَمْ!) قَالَ: (وَأَنَا قَدْ سمعته). قال: فَهَلْ سَمِعْتَ عَبْدَ اللَّهِ يَقُولُ: "مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَشَدَّ تَفْوِيضًا مِنْ قَوْلِهِ: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تقنطوا من رحمة الله}؟" (الزمر: 53). قَالَ: (نَعَمْ!) قَالَ: (وَأَنَا سَمِعْتُهُ).. صحيح الأدب المفرد (ص: 182، رقم 376/489).

{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ* وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ* وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} (الزمر: 53– 55)



عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: خَرَجَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رهطٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، يَضْحَكُونَ وَيَتَحَدَّثُونَ، فَقَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ، لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا". ثُمَّ انْصَرَفَ وَأَبْكَى الْقَوْمَ، وَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ: "يَا مُحَمَّدُ! لِمَ تُقّنِّطْ عِبَادِي؟!" فَرَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "أَبْشِرُوا، وسدِّدوا، وقارِبوا". صحيح الأدب المفرد (ص: 112، رقم 254)، وانظر الصحيحة (3194).

[قال الشّيخ عبد الرّحمن بن حسن آل الشّيخ -رحمه الله تعالى-: (لا يجوز لمن خاف اللهَ أنْ يقنطَ من رحمته، بل يكون خائفا راجيا؛ يخاف ذنوبَه، ويعملُ بطاعته، ويرجو رحمته).

قال الشّاعر:

باللهِ أبلغْ ما أسعى وأدركْه ... لا بي ولا بشفيعٍ لي من النّاس

إذا أَيِسْتُ وكادَ اليأسُ يقطعُني ... جاء الرّجا مسرعًا من جانبِ الياس.

(قال بعضُ أهلِ العلم: (شرُّ النّاسِ الّذين يقنّطونَ النّاس من رحمة الله؛ أي يؤيّسونهم من رحمة الله).



أيها القانط من رحمة الله! قنوطُك دليلُ ضعفِ إيمانك، فهو يقطعك عن الله، وهو دليلُ قلّةِ فهمِك وعقلك، قنوطُك يحبّه الشّيطان؛ لتيئيسه لبني الإنسان، ويأسُك يقعدُ بك ويعجزك عن القيام بما أُمِرتَ به، فإذا غلب عليك اليأسُ والقنوطُ؛ حرمَك الإبداعَ والتّفوّقَ، واستسهلت البِطالة والكسل]. بتصرف يسير من (نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم ج11/ 5351).

وهناك قُنوطٌ يضحكُ الربَّ من عبده، عَنْ عَنْ أَبِي رَزِينٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ضَحِكَ رَبُّنَا مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ، وَقُرْبِ غِيَرِهِ». قَالَ: قُلْتُ: (يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَوَ يَضْحَكُ الرَّبُّ؟!) قَالَ: «نَعَمْ!» قُلْتُ: (لَنْ نَعْدَمَ مِنْ رَبٍّ يَضْحَكُ خَيْرًا). سنن ابن ماجة (181)، الصحيحة (2810).

[وَالْمَعْنَى؛ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَعْجَبُ مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ عِنْدَ احْتِبَاسِ الْقَطْرِ عَنْهُمْ، وَقُنُوطِهِمْ وَيَأْسِهِمْ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَقَدِ اقْتَرَبَ وَقْتُ فَرَجِهِ وَرَحْمَتِهِ لِعِبَادِهِ، بِإِنْزَالِ الْغَيْثِ عَلَيْهِمْ، وَتَغْيِيرِهِ لِحَالِهِمْ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ. وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ* وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ}] (الروم: 48- 49). جامع العلوم والحكم لابن رجب ت الأرنؤوط عند الْحَدِيثُ التَّاسِعَ عَشَرَ احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ (1/ 491).



ألا وصلُّوا وسلموا على الهادي البشير، فقد أمركم بذلك مولاكم، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب: 56). اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمٍّد وعلى آله وصحبه كثيراً.

وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين.



إِلَهَنا! فَرَرْنا إِلَيْكَ بِذُنُوبِنا، فَاعْتَرَفْنا بِخَطاينا، فَلا تَجْعَلْنِي مِنَ الْقَانِطِينَ، وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الدِّينِ.

إِلَهنا! إِذَا ذَكَرْنا ذُنُوبنا أَيِسْنا مِنْ كُلِّ خَيْرٍ, وَإِذَا ذَكَرْنا رَحْمَتَكَ رَجَوْناهَا.

إِلَهنا! أَمْدِدْ أعينَنا بِالدُّمُوعِ، وَقلوبنا بِالْخَشْيَةِ والخشوع، وَضَعْفنا بِالْقُوَّةِ والمنعة، وأنفسنا بالقناعة، حَتَّى نَبْلُغَ رِضَاكَ عَنّا, يا أرحم الراحمين!

عباد الله! {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (النحل: 90)

فاذكروا الله العظيم الجليل يذكرْكم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.



كتب وخطب: أبو المنذر فؤاد أبو سعيد

مسجد الزعفران المغازي الوسطى غزة

4 رجب 1433 هلالية

25 مايو أيار 2012 شمسية

للتواصل مع الشيخ عبر البريد الالكتروني: zafran57@yahoo.com (zafran57@yahoo.com)

آمال
05-26-2012, 04:12 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
محاضرة قيمة وشيقة وممتعة جدا
جزاكم الله خيرا اخ اسامة خضر على النقلالطيب وجعله في ميزان حسناتكم
وجزى الله الشيخ أبو المنذر خير الجزاء على المحاضرات المباركة

ام هُمام
05-29-2012, 03:31 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ
بارك الله فيكم