المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : خطبة: يا عبد الله فرح الله بالتوبة الصادقة إليه جل في علاه


أسامة خضر
11-17-2012, 07:14 AM
يا عبدَ الله فَرِّحِ الله
بالتوبة الصادقة إليه جلَّ في علاه
الحمدُ الله الرحمنِ الرحيمِ على عطائِه وإحسانِه، والشكرُ له على توفيقِه وعفوِه وغفرانِه، الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن كثير.
[شرع الهجرة ووعد المهاجرين إليه أجرًا عظيمًا، فقال في كتابه العزيز: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه القائل: «لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ، وَلَا تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا»، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا} وسلم تسليمًا]. خطب مختارة (1/ 195).
اللهم ارفع عنا غضبك ومقتك وسخطك، واجعل كيد أعدائنا في نحورهم يارب العالمين ونعوذ بك من شرورهم، اللهم اغفر لنا وارحمنا وأرحم موتانا، واشف مرضانا وعاف مبتلانا، وانصرنا على القوم الكافرين.
أما بعد؛
لقد انتهى عام هجري بعُجَرِه وبُجَرِه، وانطوى على ما أدرجناه فيه من أعمال، ولنْ يعودَ إلى يوم القيامة، وتقفون بين يدي الله {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [المائدة: 105] وهَلَّ عامٌ جديدٌ؛ عامُ أربعةِ وثلاثين وأربعِمائة وألفٍ من الهجرة النبوية، علينا أن نستقبلَه بهمَّةٍ ونشاط، مستدركين ما فاتنا من أعمال صالحة، ومستذكرين ما اقترفناه من سيئات في الأيام الخالية، فنتوبُ ونستغفر، وللذنوب والخطايا نتركُ ونهجر، ولا بدَّ من توبةٍ صادقةٍ تُغفرُ بها الذنوب، وتُستر بها العيوب، فإن الذنوبَ والمعاصيَ كبيرَها وصغيرَها، ظاهرَها وخفيَّها، لا تثبتُ أمام التوبةِ الخالصة النصوح، فكلُّ الذنوب -عدا الشرك بالله- مردُّها إلى مشيئة الله؛ إن مات الإنسان وهو مصرٌّ عليها؛ إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه، «... وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ» البخاري (6436)، ومسلم (1048).
قال الرحمن الرحيم: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48]
وقال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الشورى: 25]
وقال جلَّ جلاله: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} =[أي: جهالةٍ منه بعاقبتها، وإيجابِها لسخط الله وعقابه، وجهلٍ منه بنظرِ الله ومراقبتِه له، وجهلٍ منه بما تئول إليه من نقص الإيمان أو إعدامه، فكل عاصٍ لله؛ فهو جاهلٌ بهذا الاعتبار، وإن كان عالما بالتحريم. بل العلم بالتحريم شرطٌ لكونها معصية معاقبا عليها] تفسير السعدي= {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا* وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 17، 18].
فالتوبة لا تنفع عند غَرْغَرَةِ الرُّوحِ في الحلقوم، ولا ممن مات كافرا، فـ«إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ العَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ». سنن الترمذي (3537). وهذا من رحمة الله بعباده العصاة.
وقال جلَّ من قائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا =معنى نصُوحًا ترك الْعود فِيمَا تَابَ مِنْهُ العَبْد إِلَى ربه= عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ =أي يغفرها لكم= وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم: 8]
وبعد الكلام عن جريمةِ السرقة، والتحذيرِ منها، وعقوبةِ فاعلِها قال سبحانه: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 39]
وقال عزَّ وجلَّ: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 54] [أي: فلا بدَّ مع ترك الذنوب والإقلاع =عنها=، والندم على =اقترافها=، من إصلاحِ العمل، وأداءِ ما أوجب الله، وإصلاحِ ما فسدَ من الأعمالِ الظاهرةِ والباطنة. فإذا وُجِد ذلك كلُّه {فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}]. من تفسير السعدي.
وعن اتباع الشهوات وترك الصلوات قال سبحانه: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا* إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا* جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا* لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا* تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا} [مريم: 59 - 63]
إنَّ الذين أشركوا، أو قتلوا أو زَنَوا إذا تابوا بإخلاص، وأكثروا من الطاعات؛ يُغفرُ لهم، وتُبَدَّلُ أعمالُهم السيئةُ بأعمالٍ صالحة، ويتقبَّلُهم ربهم عنده في الصالحين، قال سبحانه: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا* يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا* إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا* وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} [الفرقان: 68- 71]
والله سبحانه يغفر لعبده العاصي المؤمن إذا تاب، واهتدى للأعمال الصالحة فعملها، قال سبحانه: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82]
فيا عبد الله! يا من أسرف على نفسه بالمعاصي والخطايا! لا تقنطْ من رحمةِ اللهِ الرحمنِ الرحيم، الرؤوفِ الودود، {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر: 56]
وهذا نداءٌ من الله جلَّ جلالُه لعبادِه المسيئين والمذنبين، والعصاةِ المسرفين، لا يُقَنِّطُهم من رحمتِه وامتنانِه، بل يؤمِّلُهم بعفوِه وغفرانِه: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]
ولكن أمرهم بأعمالٍ يقومون بها، إن كانوا صادقين في توبتهم وإقبالهم على الله سبحانه فقال: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ =أي [أَقْبِلُوا وَارْجِعُوا إِلَيْهِ بِالطَّاعَةِ] البغوي= وَأَسْلِمُوا لَهُ =[وأخلصوا لَهُ التَّوْحِيدَ]، من تفسير البغوي= مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ* وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ =[يَعْنِي الْقُرْآنَ] تفسير البغوي= مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ* أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ* أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ* أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ* بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ* وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ* وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الزمر: 54- 61]
أيها العصاة! يا من ضاقت عليكم الأرض على سَعَتِها! وضاقت عليكم أنفسُكم لعِظَم ذنوبِكم! وظننتم ألا مفرَّ من الله جلَّ جلاله إلا إليه، إذا تبتم واتقيتم وكنتم من الصادقين؛ تاب الله عليكم وقَبِلَكُم، فقد قال سبحانه: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 118، 119]
فالمطلوب من العصاة والمذنبين، الذين يبتغون التوبةَ الصادقةَ أن يكونوا من المنيبين إلى الله سبحانه أي الرجَّاعين إليه، فالإنابة هي: [الرجوعُ إلى الله، بالتوبة من جميع المعاصي، والرجوعُ إليه في جميع أعماله وأقواله، فيعرضُها على كتابِ الله، وسنةِ رسولِه صلى الله عليه وسلم، فتكونُ الأعمالُ والأقوال، موزونةٌ بميزان الشرع] تفسير السعدي (1/ 943).
وأن يكونوا من المستسلمين بين يديه في العبادات والطاعات، الموحدين المتبعين ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، على قدر الطاقة والاستطاعة، المتقين لله؛ أي خائفين منه سبحانه في السرِّ والعلن، المحسنين إلى الله بالتوحيد والعبادة، وإلى خلق الله بحسن المعاملة، الصادقين في توبتهم؛ =[قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: مَعَ الَّذِينَ صَدَقَتْ نِيَّاتُهُمْ وَاسْتَقَامَتْ قُلُوبُهُمْ وَأَعْمَالُهُمْ..] تفسير البغوي=.
بذلك يكون الفوز برضا الله وجنته، والنجاة من عذاب الله وغضبه. «... فَإِنَّ العَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ ثُمَّ تَابَ إِلَى اللَّهِ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ». البخاري (4750) ومسلم (2770)
أيُّها العاصي! وكلُّنا عصاة، سيأتي يومٌ يقولُ اللهُ فيه: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [الأنعام: 94]. أيها الناس! سترجعون إلى الله فرادى كما ولدتكم أمهاتكم، [...عُرَاةً حُفَاةً غرلا، =فقد= تَرَكْتُمْ، وخلّفتم مَا ...=أَعْطَاكم الله= مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَالْخَدَمِ، وَراءَ ظُهُورِكُمْ] تفسير البغوي. ولم يكن معكم منهم شيء، فليس معكم إلا أعمالُكم يحصيها الله لكم، {فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} [طه: 52]
وستأتون ربكم يوم القيامة فرادى، «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ، لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ، وَلاَ حِجَابٌ يَحْجُبُهُ». البخاري (7443)، وفي رواية أخرى: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَسَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، لَيْسَ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ، ثُمَّ يَنْظُرُ فَلاَ يَرَى شَيْئًا قُدَّامَهُ، ثُمَّ يَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَتَسْتَقْبِلُهُ النَّارُ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَّقِيَ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ». البخاري (6539)، وقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اتَّقُوا النَّارَ» ثُمَّ أَعْرَضَ وَأَشَاح، ثُمَّ قَالَ: «اتَّقُوا النَّارَ» ثُمَّ أَعْرَضَ وَأَشَاحَ ثَلاَثًا، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ: «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ». البخاري (6540)، ومسلم(1016). فالشيء اليسير من الصدقة، والكلمة الطيبة حمايةٌ وحجاب من النار.
وثبت أَنَّ أَبَا ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ أَبْيَضُ، وَهُوَ نَائِمٌ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ وَقَدِ اسْتَيْقَظَ، فَقَالَ: "مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا دَخَلَ الجَنَّةَ" قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: «وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ» قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: «وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ» قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: «وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ عَلَى رَغْمِ أَنْفِ أَبِي ذَرٍّ». وَكَانَ أَبُو ذَرٍّ إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا قَالَ: (وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ أَبِي ذَرٍّ) قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ =البخاري=: (هَذَا عِنْدَ المَوْتِ، أَوْ قَبْلَهُ إِذَا تَابَ وَنَدِمَ، وَقَالَ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، غُفِرَ لَهُ). البخاري (5827)، ومسلم (94).
ولا بدَّ للعبد من إحسان الظنِّ بالله سبحانه "قَالَ اللَّهُ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي". البخاري (7505). و«إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ». المعجم الأوسط (8/ 56، رقم 7951)، وانظر الصحيحة (1663). [أي إن ظنَّ بي خيرًا أفعلْ به خيرًا، وإن ظنَّ بي شرًّا أفعلْ به شراًّ] فيض القدير (2/ 312).
فقبل أن يموتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَلَاث ليال، قال: «لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ بِاللهِ الظَّنَّ» مسلم (2877).
[فإنَّ ظنَّ أن يسامحَه سامحَه، وإن ظنَّ أنْ يعاقبَه عاقبَه، فلا يظنّ به إلاَّ خيراً يرى الخير، وهذا أصلٌ عظيمٌ في حُسنِ الرجاءِ في الله، وجميلِ الظنِّ به]. فيض القدير (4/ 374).
قال أبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ عَبْدًا أَصَابَ ذَنْبًا -وَرُبَّمَا قَالَ: أَذْنَبَ ذَنْبًا- فَقَالَ: رَبِّ أَذْنَبْتُ -وَرُبَّمَا قَالَ: أَصَبْتُ- فَاغْفِرْ لِي، فَقَالَ رَبُّهُ: ((أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ؟ غَفَرْتُ لِعَبْدِي))، ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَصَابَ ذَنْبًا، أَوْ أَذْنَبَ ذَنْبًا، فَقَالَ: رَبِّ أَذْنَبْتُ -أَوْ أَصَبْتُ- آخَرَ، فَاغْفِرْهُ؟ فَقَالَ: ((أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ؟ غَفَرْتُ لِعَبْدِي))، ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا، وَرُبَّمَا قَالَ: أَصَابَ ذَنْبًا، قَالَ: قَالَ: رَبِّ أَصَبْتُ -أَوْ قَالَ: أَذْنَبْتُ- آخَرَ، فَاغْفِرْهُ لِي، فَقَالَ: ((أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ؟ غَفَرْتُ لِعَبْدِي)) ثَلاَثًا، ((فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ))" البخاري (7507).
إذا كان المشرك والمنافق إذا تاب التوبة النصوح؛ الله يغفر له ويتوب عليه، فكيف بالعاصي النادم؟؟!! قال سبحانه: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} [النساء: 145- 147]
وبابُ التوبةِ مفتوحُ للعبد ما لم يغرْغرْ، أو تطلع الشمس من مغربها، فـ«مَنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، تَابَ اللهُ عَلَيْهِ» مسلم (2703)
وأُذكِّر نفسي وإيَّاكُم، بقوله سبحانه: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} [هود: 89، 90]. {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31].
وهذا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الذي غَفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخَّر يقول: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ! تُوبُوا إِلَى اللهِ، فَإِنِّي أَتُوبُ، فِي الْيَوْمِ إِلَيْهِ مِائَةَ مَرَّةٍ». مسلم (2702).
بل يُقسِم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ذلك ويَقُولُ: «وَاللَّهِ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي اليَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً» البخاري (6307).
والتائبُ الصادقُ المخلصُ في توبته له مكانةٌ عظيمةٌ عند الله جل جلاله، فهو سبحانه يفرح برجوع عبدِه العاصي إليه تائبا، فقد قال رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: "لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ، مِنْ رَجُلٍ فِي أَرْضٍ دَوِّيَّةٍ =[هِيَ الْأَرْضُ الْقَفْرُ وَالْمَفَازَةُ الْخَالِيَةُ] مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (4/ 1633)= مَهْلِكَةٍ، مَعَهُ رَاحِلَتُهُ، عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَنَامَ فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ، فَطَلَبَهَا حَتَّى أَدْرَكَهُ الْعَطَشُ، ثُمَّ قَالَ: أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِيَ الَّذِي كُنْتُ فِيهِ، فَأَنَامُ حَتَّى أَمُوتَ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى سَاعِدِهِ لِيَمُوتَ، فَاسْتَيْقَظَ وَعِنْدَهُ رَاحِلَتُهُ وَعَلَيْهَا زَادُهُ وَطَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَاللهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ، مِنْ هَذَا بِرَاحِلَتِهِ وَزَادِهِ"، مسلم (2744).

الخطبة الآخرة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه إلى يوم الدين وبعد؛
حاول بعض المسرفين على أنفسهم بالمعاصي أن يتخلَّصَ ويفرَّ من عذاب الله سبحانه، فأمرَ أولادَه بإحراقِه بعد موتِه، جاهلاً قدرةَ اللهِ على إعادتِه، دَفَعَهُ لذلك خوفُه من عذابِ الله، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَسْرَفَ رَجُلٌ عَلَى نَفْسِهِ، فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَوْصَى بَنِيهِ فَقَالَ: إِذَا أَنَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي، ثُمَّ اسْحَقُونِي، ثُمَّ اذْرُونِي فِي الرِّيحِ فِي الْبَحْرِ، فَوَاللهِ لَئِنْ قَدَرَ عَلَيَّ رَبِّي لَيُعَذِّبُنِي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ بِهِ أَحَدًا، قَالَ: فَفَعَلُوا ذَلِكَ بِهِ، فَقَالَ لِلْأَرْضِ: أَدِّي مَا أَخَذْتِ، فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ، فَقَالَ لَهُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ فَقَالَ: خَشْيَتُكَ، يَا رَبِّ -أَوْ قَالَ: مَخَافَتُكَ- فَغَفَرَ لَهُ بِذَلِكَ"، مسلم (2756)، "فَتَلَقَّاهُ بِرَحْمَتِهِ" البخاري (3478).
وهذا رجل قتل مائة نفس أخلص التوبة إلى الله فقبله الله، ثبت أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: (إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟) فَقَالَ =وهذا من جهله=: (لَا!) =ليس لك توبة= فَقَتَلَهُ، فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً، ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ، فَقَالَ: (إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟) فَقَالَ: (نَعَمْ! وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟! انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللهَ، فَاعْبُدِ اللهَ مَعَهُمْ، وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ، فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ). فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّرِيقَ أَتَاهُ الْمَوْتُ، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، فَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ: (جَاءَ تَائِبًا مُقْبِلًا بِقَلْبِهِ إِلَى اللهِ)، وَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ: (إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ)، فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ، فَجَعَلُوهُ =حكما= بَيْنَهُمْ، فَقَالَ: (قِيسُوا مَا بَيْنَ الْأَرْضَيْنِ؛ فَإِلَى أَيَّتِهِمَا كَانَ أَدْنَى =أي أقرب= فَهُوَ لَهُ)، فَقَاسُوهُ، فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ، فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ». قَالَ قَتَادَةُ: فَقَالَ الْحَسَنُ: ذُكِرَ لَنَا؛ «أَنَّهُ لَمَّا أَتَاهُ الْمَوْتُ نَأَى بِصَدْرِهِ» البخاري (3470), ومسلم (2766) واللفظ له، وفي رواية: "فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى هَذِهِ =الأرض التي يعبد الله فيها= أَنْ تَقَرَّبِي، وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى هَذِهِ =أي أرضه أرض السوء= أَنْ تَبَاعَدِي، وَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَهُمَا، فَوُجِدَ إِلَى هَذِهِ أَقْرَبَ بِشِبْرٍ، فَغُفِرَ لَهُ" البخاري (3470)، وفي رواية: "فَكَانَ إِلَى الْقَرْيَةِ الصَّالِحَةِ أَقْرَبَ مِنْهَا بِشِبْرٍ، فَجُعِلَ مِنْ أَهْلِهَا". مسلم (2766)
[وَذكر عمرُ بنُ ذَرٍّ؛ أَنه مَاتَ رجل من جِيرَانه، وَكَانَ مُسْرِفًا على نَفسه، فتحامى كثير من النَّاس جنَازَته فَلم يحضرها، وحضرها عُمر، فَلَمَّا دُفن وقف على قَبره فَقَالَ: (يَرْحَمك الله؛ فَلَقَد عِشْت عُمُرَك بِالتَّوْحِيدِ، وعفَّرت وَجهك بِالسُّجُود، وَإِن قَالُوا: مذنب وَذُو خَطَايَا؛ فَمن منَّا غيرُ مذنبٍ وَذي خَطَايَا؟!)]. العاقبة في ذكر الموت لعبد الحق الأشبيلي، المعروف بابن الخراط (المتوفى: 581هـ) (ص: 162)، والعقد الفريد (2/ 210)، وإحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي (المتوفى: 505هـ) (4/ 485)
يا أيها العاصي! يا من ارتكبت كبائر الذنوب والخطايا! التي سيسترها الله عليك إن شاء، ويَعرِضُ عليك صغارَها، فتخبرُ أنت بكبارها، عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا الْجَنَّةَ، وَآخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا، رَجُلٌ يُؤْتَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُقَالُ: (اعْرِضُوا عَلَيْهِ صِغَارَ ذُنُوبِهِ، وَارْفَعُوا عَنْهُ كِبَارَهَا)، فَتُعْرَضُ عَلَيْهِ صِغَارُ ذُنُوبِهِ، فَيُقَالُ: (عَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، كَذَا وَكَذَا، وَعَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، كَذَا وَكَذَا)، فَيَقُولُ: (نَعَمْ!) لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْكِرَ، وَهُوَ مُشْفِقٌ مِنْ كِبَارِ ذُنُوبِهِ أَنْ تُعْرَضَ عَلَيْهِ، فَيُقَالُ لَهُ: (فَإِنَّ لَكَ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً!) فَيَقُولُ: (رَبِّ! قَدْ عَمِلْتُ أَشْيَاءَ لَا أَرَاهَا هَا هُنَا)». =قال أبو ذر= فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ. مسلم (190).
وليس أحد معصوم إلاَّ الأنبياء فــ«كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ» الترمذي (2499)، وابن ماجه (4251)،
وأقسم رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ» مسلم (2749).
فأحسنْ ظنَّك بربِّك، وأكثرْ من ذِكرِه، وكرِّرْ التوبةَ إليه في اليوم مائةَ مرّة، وتقرَّبْ إليه بعد أداءِ الفرائض بالنوافلِ حتى يحبَّك ويقبلَ عليك، ويغمرَك بجُودِه ورضاهُ وكرَمِه، فقد «قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ حَيْثُ يَذْكُرُنِي، وَاللهِ! لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ =وفي رواية: «لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ أَحَدِكُمْ، ..»،= مِنْ أَحَدِكُمْ يَجِدُ ضَالَّتَهُ بِالْفَلَاةِ، وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرًا، تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا، تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِذَا أَقْبَلَ إِلَيَّ يَمْشِي، أَقْبَلْتُ إِلَيْهِ أُهَرْوِلُ» مسلم (2675). [ولا ريب أنَّ تلك التوبةَ الصادقةَ أفضلُ وأحبُّ إلى الله تعالى من أعمالِ كثيرٍ من التطوعات، وإن زادت في الكثرة على التوبة]. المنار المنيف في الصحيح والضعيف (ص: 31(.
فلنتقربْ إلى الله بالتوبة الصادقة، ولنقلعْ عن الذنوب ونجتنبها، ونندمْ على ما أسلفنا من خطايا وآثام، ونجددْ العزمَ الأكيدَ على ألاّ نعودَ إلى المعاصي والذنوب مرة أخرى، ونرجعْ الحقوقَ إلى أصحابها، فإن لم نجدْها نتصدقْ عنهم، فإن لم نستطعْ أكثرْنا لهم من الدعاء، حتى نكون ممن قال فيهم رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ، كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ» سنن ابن ماجه (4250)، صحيح الجامع (3008). [فَلَا يَخْرُجُ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ ذَنْبٌ وَاحِدٌ، وَلَكِنْ هَذَا فِي حَقِّ التَّائِبِينَ خَاصَّةً]. الداء والدواء (ص: 165)
هذا؛ ليقبلَنا الله في التائبين، ومن النيران من الناجين، وللجنان من الفائزين، ومن أرحم الراحمين من المقربين.
[اللَّهُمَّ انْظُمْنَا فِي سِلْكِ الفَائِزِينَ بِرِضْوَانِكَ، وَاجْعَلْنَا مِنْ الْمُتَّقِينَ الذِينَ أَعْدَدْتَ لَهُمْ فَسِيحَ جِنَانِكَ، وَأَدْخِلْنَا بِرَحْمَتِكَ فِي دَارِ أَمَانِكَ، وَعَافِنَا يَا مَوْلانَا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ مِنْ جَمِيعِ البَلايَا، وَأَجْزِلْ لَنَا مِنْ مَوَاهِبِ فَضْلِكَ وَهِبَاتِكَ، وَمَتِّعْنَا بَالنَّظَرِ إِلى وَجْهِكَ الكَرِيمِ، مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ، وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ؛ الأحْيَاءِ منْهُمْ والمَيِّتِينَ، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين]. موارد الظمآن لدروس الزمان (1/ 348)
{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ}.

كتب وخطب: أبو المنذر فؤاد بن يوسف أبو سعيد
الزعفران المغازي غزة
الثاني من محرم 1434 هلالية
وفق: 16/ 11/ 2012 شمسية.
للتواصل مع الشيخ عبر البريد الالكتروني: zafran57@yahoo.com (zafran57@yahoo.com)
أو زوروا الموقع الالكتروني الرسمي للشيخ: www.alzafran.com (http://www.alzafran.com/)

آمال
11-17-2012, 09:44 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
خطبة راائعة جدا, بارك الله فيكم وجزاكم الله خيرا
جعلها الله في ميزان حسناتكم
هل يتناقض شعور الانسان بالخجل من ذنبه ونفسه وربه والخوف من الله وهو امر واقع وجائز , (فمن عصى الله او أذنب وتاب لا يفتخر بما كان يصنع , بل يخجل من نفسه ومن الله , وقد يراوده احساس بأنه سيحاسب ويعذب على ما قام به) مع احسان الظن بالله ؟؟
أرجو التوضيح واعطاء امثلة
رزقنا الله جميعا الجنة

ام هُمام
11-17-2012, 09:08 PM
اللَّهُمَّ انْظُمْنَا فِي سِلْكِ الفَائِزِينَ بِرِضْوَانِكَ، وَاجْعَلْنَا مِنْ الْمُتَّقِينَ الذِينَ أَعْدَدْتَ لَهُمْ فَسِيحَ جِنَانِكَ، وَأَدْخِلْنَا بِرَحْمَتِكَ فِي دَارِ أَمَانِكَ، وَعَافِنَا يَا مَوْلانَا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ مِنْ جَمِيعِ البَلايَا، وَأَجْزِلْ لَنَا مِنْ مَوَاهِبِ فَضْلِكَ وَهِبَاتِكَ، وَمَتِّعْنَا بَالنَّظَرِ إِلى وَجْهِكَ الكَرِيمِ، مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ، وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ؛ الأحْيَاءِ منْهُمْ والمَيِّتِينَ، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين

أسامة خضر
11-18-2012, 10:57 AM
الأخت الفاضلة آمال:::: أنقل إلى حضرتك جواب شيخنا على سؤالك، بوركتم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن الاه إلى يوم الدين.
وبعد؛
ليس هناك بحمد الله تناقض، بل من إحسان الظن به سبحانه، تذكُّر الذنب لتستمر التوبة، وليزداد العبد التائب من الطاعات، فكأن تذكر المعاصي محرك للإقبال على الله أكثر وأكثر، قال عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا النَّجَاةُ؟ قَالَ: «امْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ». سنن الترمذي (2406)، وكيف يبكي على خطيئة فتركها ونسيها ولم يتذكرها.
ومن مواعظ ابن الجوزي (الياقوتة) الفصل الأول (ابك على خطيئتك) أنقل باختصار من يتذكر المعاصي، أو من يعتبرها معاصي، فيبكي:
[إخواني: لو تفكرت النفوس فيما بين يديها، وتذكرت حسابها فيما لها وعليها، لبعث حزنُها بريدَ دمِها إليها، أما يحق البكاء لمن طال عصيانه: نهاره في المعاصي، وقد طال خسرانه، وليله في الخطايا، فقد خفَّ ميزانه، وبين يديه الموت الشديد فيه من العذاب ألوانه...
يا مَن معاصيه أكثرُ من أن تحصى، يا من رضي أن يطردَ ويقصى، يا دائم الزلل وكم يُنهى ويوصى، يا جهولا بقدرنا ومثلنا لا يعصي، إن كان قد أصابك داء داود، فنُحْ نَوح نُوح، تحيا بحياة يحيى.
روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان في وجهه خطوطٌ مسودةٌ من البكاء.
وبكى ابن مسعود، حتى أخذ بكفه من دموعه فرمى به.
وكان عبد الله بن عمر يطفىء المصباح بالليل ثم يبكي حتى تلتصق عينيه.
وقال أبو يونس بن عبيد: كنا ندخل عليه فيبكي حتى نرحمه.
وكان سعيد بن جبير، قد بكى حتى عمش.
وكان أبو عمران الجوني، إذا سمع المؤذن، تغير وفاضت عيناه.
وكان أبو بكر النهشلي، إذا سمع الأذان تغير لونه وأرسل عينيه بالبكاء.
وكان نهاد بن مطر العدوي، قد بكا حتى عمي.
وبكى ابنه العلا، حتى عَشي بصره.
وكان منصره قد بكى حتى جَرَدَت عيناه.
وكانت أمه تقول: يا بني، لو قتلت قتيلاً ما زدت على هذا.
وبكى هشام الدستوائي حتى فسدت عيناه وكانت مفتوحة، وهو لا يبصر بها.
وبكى يزيد الرقاشي أربعين سنة حتى أظلمت عيناه وأحرقت الدموع مجاورتها.
وبكى ثابت البناني حتى كاد بصره أن يذهب، وقيل له: نعالجك، على أن لا تبكي، فقال: لا خير في عين لم تبك:
بكى الباكون للرحمن ليلاً ... وباتوا دمعهم ما يسأمونا
بقاع الأرض من شوقي إليهم ... تحن متى عليها يسجدونا]
[فَالتَّوْبَةُ الصَّادِقَةُ تَقْتَضِي تَذَكُّرَ صَاحِبِهَا زَلَلَهُ أَسَفًا وَحَيَاءً مِنْ اللَّهِ تَعَالَى مِمَّا سَلَفَ مِنْهُ، ...] الزواجر عن اقتراف الكبائر (2/ 365)
فَفِي صحيح البخاري (6308): عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ المُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ». فَقَالَ بِهِ هَكَذَا، قَالَ أَبُو شِهَابٍ: بِيَدِهِ فَوْقَ أَنْفِهِ.
والله أعلم

آمال
11-18-2012, 04:11 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
بارك الله فيكم اخونا الفاضل اسامة خضر على نقل السؤال والجواب
وبارك الله في الشيخ وزاده علما
رزقنا الله جميعا الجنة

ابو عبد الرحمن
11-21-2012, 09:04 PM
بارك الله فيك اخي اسامة وجزا الله شيخنا الفاضل ابا المنذر خير الجزاء وزاده الله علما وخيرا
سلامنا الى شيخنا الفاضل والى الجميع طرفكم والحمد لله على سلامة الجميع