عرض مشاركة واحدة
قديم 08-15-2025, 07:31 PM   #2
مشرفة قسم القرآن

 
الملف الشخصي:





 


تقييم العضو:
معدل تقييم المستوى: 0

امانى يسرى محمد غير متواجد حاليا

افتراضي

      

{ الْبُشْرَىٰ }

في لسان العرب : " من أحب القرآنَ فـَلْيـَبْشَر: أي فليفرحْ ولـْيـُسَرّ . أراد أن محبة القرآن دليل على محْض الإيمان " " وبشّرَه : فرّحه " . وفي معجم الصحاح " البشارة المطلقة لا تكون إلا بالخير ، وإنما تكون بالشر إذا كانت مقيدة كقوله تعالى : فبشرهم بعذاب أليم ." وفي القاموس المحيط " البُشرى ما يناله المُبَشـِّر " .

- لا يُذكر البشير – عادة – إلا ويذكر في المقابل النذير كما في قوله تعالى في سورة الفرقان الآية 56 وفي سورة الإسراء الآية 105 باللفظ نفسه مخاطباً نبيه الكريم عليه الصلاة والسلام :
{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا } .

- بشر الله تعالى المؤمنين في القرآن الكريم بإيمانهم وتقواهم ، وجعل رضاه سبحانه ، والجنة جزاءهم ، وصرح بوجود الأنهار والرزق الوافر المتعدد والزوجات الطاهرات مع الخلود في هذه الجنان ، فقال – سبحانه - في الآية 25 من سورة البقرة :
{ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۖ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا ۙ قَالُوا هَـٰذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ ۖ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا ۖ وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ ۖ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
وهذه البشرى تكررت في القرآن الكريم عشرات المرات .

- ونجد من أنواع المؤمنين الذين نالتهم البشرى في القرآن الكريم :
أ- الصابرين على السراء والضراء :
منحهم الله تعالى الرحمة والبركات وختم لهم بالهداية ، فقال في سورة البقرة :
{ وَلَنَبْلُوَنَّ كُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴿155﴾ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّـهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴿156﴾ أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴿157﴾} .

ب- المخبتين :
وهم المطمئمون إلى الله المتواضعون له فوصفهم بأنهم يهابونه ويحبونه ، ويصبرون على ما ابتلاهم به ، ويقيمون الصلاة ويكثرون الإنفاق من مال الله الذي في أيديهم . فقال في سورة الحج :
{ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِّيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّـهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا ۗ وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ ﴿34﴾ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّـهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَىٰ مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (35)} .

ج- المحسنين :
وهم أهل التقوى الذين يعبدون الله كأنهم يرونه فقال تعالى في سورة الحج :
{ ... وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)} ، وقال سبحانه في سورة الأحقاف :
{ ... وَبُشْرَىٰ لِلْمُحْسِنِينَ (12)} كما صرح المولى تعالى في آيات كثيرة :
{ وَإِنَّ اللَّـهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ }
{ إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }
{ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ }
{ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّـهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ } .

د- عبادَ الله :
وهم الواعون لما يُتلى عليهم ، يفهمونه ويعملون به ، فكانوا مهتدين لأنهم أصحاب العقول والأفهام ، يقول تعالى في سورة الزمر الآية 17 :
{ وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّـهِ لَهُمُ الْبُشْرَىٰ ۚ فَبَشِّرْ عِبَادِ ﴿17﴾ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّـهُ ۖ وَأُولَـٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴿18﴾} .
ويقول الله تعالى في أول سورة " يس " مادحاً عباده الذين يخشونه بالغيب فيعملون بما أمر مبشراً إياهم بالغفران الواسع والأجر العظيم :
{ إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَـٰنَ بِالْغَيْبِ ۖ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ ﴿11﴾} .

هـ- المجاهدين :
وهم الذين باعوا أنفسهم لله تعلى فجاهدوا في سبيله ، وباعوا الدنيا بالآخرة ففازوا بالجنة ورضاء الله تعالى . يقول الله سبحانه في سورة التوبة :
{ إِنَّ اللَّـهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّـهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿111﴾} .

و- الدعاة إلى الله :
وهم الذين جهروا بالدعوة ، وأعلنوها ، وأعلنوا العبودية لله وحده ، وكانوا قدوة في قولهم وعملهم ، هؤلاء لا يخافون حين يخاف الناس ، ولا يحزنون حين يحزن الناس ، فالجنة جزاؤهم ، والله تعالى وليـّهم ، والملائكة تبشرهم . كل هذا لأنهم آمنوا بالله رباً واحداً وأعلنوا دعوتهم على الملأ ، واستقاموا في حياتهم ، ودعوا إلى الله فكانوا نبراساً ونوراً ، يقول الله تعالى في سورة فصلت :

{ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّـهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ﴿30﴾ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ﴿31﴾ نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ ﴿32﴾ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّـهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴿33﴾} .




- أما الذين غضب الله تعالى عليهم لكفرهم وفسادهم ، فهؤلاء ينذرهم بالويل والثبور والعذاب الشديد ، ويستعمل القرآن كلمة البشرى مكان الإنذار لما فيها – حين تخرج عن معناها الأصلي – من تهكم وسخرية وتوبيخ . وهؤلاء الذين بشرهم القرآن بالعذاب أنواع ، منهم :

أ - الكفار :
يقول تعالى في سورة التوبة :
{ ... وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3)} ،
ويقول سبحانه في سورة الانشقاق :
{ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّـهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24)}
وتصور معي البشرى بما يكره الإنسان ويخاف . إنها لسخرية ما بعدها سخرية ، واحتقار ما وراءه احتقار . ويندرج تحت هذا المسمّى أهل الكتاب ممن كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد بعثته ، ومن الذين أشركوا مع الله آلهاً غيره ، ومن الذين كفروا به وعبدوا آلهة أخرى ، أو أنكروا وجود الخالق ، أو ادّعَوُا الألوهية .

ب - المنافقون :
هؤلاء دخل الإيمان قلوبهم ثم خرج ، { آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا } فطبع الله على قلوبهم . وهؤلاء في الدرك الأسفل من النار لغضب الله الشديد عليهم ، اقرأ معي قوله تعالى في سورة النساء يصور حالهم وتذبذبهم بين الإيمان والكفر ، ثم خلودهم إلى الكفر والبعد عن الهداية :
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللَّـهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137)} ، ثم يقرر في الآية التالية أنهم أصحاب النار وسيذوقون فيها العذاب الأليم :
{ بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138)}
لماذا ؟ وما سبب ذلك؟! إنهم انحازوا إلى الكفار أمثالهم ، ورغبوا عن الله والمؤمنين ظانّين أن العزة عند أولئك الكفار ، فخابوا وخسروا ، يقول سبحانه وتعالى بعد ذلك:
{ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّـهِ جَمِيعًا (139)}

ت - المستكبر :
قد تتوقع خيراً من كثير من المجرمين والمفسدين أما المستكبر فلا خير فيه لأنه يرى نفسه فوق الآخرين ، بل يجد الآخرين خدماً وخَولاً ، وجودهم لوجوده فقط وحياتهم مسخرة لخدمته . هذا الصنف لا يرى إلا نفسه ، ولا يسمع سوى ما يهواه . أما كلمة الحق فبعيدة عنه ، بل الحق في نظره ما يريده ويهواه ... فهل تراه بعد هذا يستجيب للدعوة أو يعطيها ظهره ويسد أذنيه ؟! اقرأ معي سمات المستكبر في سورة لقمان تصوره صورة واضحة تبين عجرفته وصدوده :
{ وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّىٰ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7)}
ألا يستحق هذا المستكبر هذه الصفعة القوية والتهديد القوي ؟ كما نجد مثاله أيضاً في سورة الجاثية وقد زاد لؤمه في الصفتين الجديدتين فهو أفاك وأثيم ، قال سبحانه :
{ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّـهِ تُتْلَىٰ عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8)}
فهو يسمع كلمة الحق ويتجاهلها سخرية وترفعاً وكبرياء، فكانت العقوبة سخرية به واستهزاء بما يناسب جرمه.

ث - أما الذين يأكلون الدنيا بالدين :
فهؤلاء لصوص يدّعون الإيمان بالله ويجمعون باسمه المال ويكنزونه ،ويحاربون الدين في الوقت نفسه فلا يصرفون المال في وجوهه الصحيحة بل يسلبونه بكل طرق الباطل والدجل ، قال تعالى في سورة التوبة :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّـهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34)}،
هؤلاء يعذبهم الله بالمال نفسه ، يحسبونه نعمة فإذا هو عليهم نقمة حيث يصبح ناراً تكوى بها أجسادهم وجباههم التي رفعوها تفاخراً على العباد بالغنى ، وجنوبهم التي مالوا بها عن الفقير حين سألهم فتغافلوا عنه ، ثم أدارو للفقير ظهورهم التي تًكوى يوم القيامة بالكنز نفسه والعياذ بالله ،
قال عز و جل بعدها :
{ يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ (35)}.
فالعقوبة من جنس العمل . قال سبحانه في سورة إبراهيم :
{ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّـهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)}.

ج - والنوع الآخير مما نذكر قتـَلة الأنبياء والدعاة :
وهؤلاء المجرمون يريدون بقتل الأنبياء والدعاة تجفيف منابع الخير والدعوة ، ليغرق الناس في جاهلية جهلاء ويسعون لوأد النور والضياء ونشر الظلم والفساد .. قال عز وجل :
{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّـهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21)}(آل عمران) .
إنهم موجودون في كل زمان ومكان ، وتراهم منبثين في الشوارع والنوادي ويدخلون البيوت والمخادع ويبثون سمومهم بكل أطياف الفكر المنحرف والثقافة المنحطة والأهواء البهيمية ، ويدسون السم في الدسم والردّة في العلم المادّي ، قال تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّـهِ فَسَيُنفِقُونَه َا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)}(الأنفال) ،
وهذا من فضل الله علينا معشر المسلمين أن الأعداء يمكرون ، ولكن الله تعالى يبطل مكرهم .

- ومن الجدير بالذكر أن الملائكة الكرام بشرى للمسلمين :
أ - إنهم يبشرون زكريا بولده يحيى (عليهما السلام) قال سبحانه :
{ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّـهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّـهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ (39)}(آل عمران)
{ يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَىٰ لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا (7)}(مريم) .

ب - ويبشرون إبراهيم بولده الحليم إسماعيل عليهما السلام ، قال عز وجل في سورة الصافات :
{ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101)} ،
ويبشرونه بولده العليم إسحاق عليه السلام في السورة نفسها ، قال جل ثناؤه :
{ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ (112)} ،
ونجد وصف العلم في سورة الذاريات ، قال عز من قائل :
{ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28)}

ت - ويبشرون سارة بابنها إسحاق وحفيدها يعقوب عليهم السلام ، قال تعالى:
{ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71)}(هود) .

ث - كما نجد أثر الملائكة الإيجابي في معركة بدر حين قاتلت مع المسلمين أعداءهم بأمر الله ، وقتالهم بشرى بالنصر عظيمة قال سبحانه في سورة الأنفال :
{ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)} .

والملائكة نفسها شؤم على الكافرين :
أ - فالكفار يزعمون أنهم لا يؤمنون إلا إذا رأوا ربهم أو رأوا الملائكة ، فيخيب الله تعالى زعمهم حين يخبرهم أنهم لن يروا الملائكة إلا حين ينتهي الأمر ويكونون من أصحاب النار :
{ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَىٰ رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَىٰ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِين َ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا (22) وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا (23)}(الفرقان) .

ب - وكانت العرب تكره البنت وترغب بالصبي ، فقد كانوا يجدونها عبئاً ، ويرون نصرها بكاء وعويلاً وصراخاً ، أما الفتى فيحمل السلاح ويقاتل ، لقد كان المجتمع ذكورياً أدى بهم إلى وأد البنت في كثير من الأحيان ، وقد وثـّق القرآن وأدهم بقوله تعالى في سورة التكوير :
{ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ (9)}
كما نعى على هؤلاء أنهم يجعلون لله - سبحانه - البنات (الملائكة) على زعمهم ويرتضون لأنفسهم الذكور ، قال تعالى في سورة النحل :
{ وَيَجْعَلُونَ لِلَّـهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَىٰ مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59)}،
فكيف يرتضون لربهم البنات ، ويطلبون لأنفسهم الذكور ؟! قال سبحانه في سورة الزخرف :
{ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَـٰنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17)} .


بشرى الإله على التقوى منازل لا * يرقى إليها سوى المحفوف بالنعَم
من بات يسعى إلى مرضاة خالقه * ببذل معروفه بالفعل والـكـَلـِم
يُـقال أبـشِـرْ بجـنات ومغفرة * أعظِم بعفو مليك الكـون من غُنُم
يارب إني ضعيف فاحْبـُني مدداً * وسدد الخطوَ في الناجيـن بالكرم​




:{ هَلْ أَتَاكَ }

كلما قرأت الآيات الني تتصدرها هذا الكلمة مسبوقة بالاستفهام { هَلْ أَتَاكَ } عشت التحدي القرآني العجيب في سـَوق الخبر الذي ينبئ عن الغيب الذي يحمله إلى القارئ أو السامع في حقيقته وصدقه ، واقتطاعه من الماضي السحيق صورة تثـبُت أمام العين حركة ولوناً وحَدثاً ، وتجاويف الأذن صوتاً وجلبة . وفي القلب انطباعاً وثباتاً ، والعقلِ تفكيراً وتحليلاً ودروساً وعِبَراً . فإذا بهذا النبأ الغيبي حقيقة واقعة في حواس الإنسان يعيشه وجداناً وعواطف ، وتأملاً وتدبراً .

هَلْ أَتَاكَ ... تنقل الماضي المنسيّ حاضراً حيـّاً تتلمسه لوحة ً متحركة تعرض الحدث نابضاً بالحياة ، فتتفاعل معه كأنك أحد عناصره وهذا الشعور لحظة تربوية إيجابية لا تنمحي من الذاكرة .وهذا ما يمتاز به النص القرآني الرائع

وردت هذه الكلمة { هَلْ أَتَاكَ } ست مرات في القرآن ، وهي أسلوب إنشائي استفهامي سبقته { هَلْ } الاستفهامية التي لا تحتاج جواباً ، فما بعدها الجواب الشافي بكل أبعاده . إنه أسلوب لجذب الانتباه ، فتترك كل ما في يديك لتخلـُص للحدث ، وتندمج فيه .

وترى بعد { هَلْ أَتَاكَ } كلمة { حَدِيث } خمس مرات وهي بمعنى الحدث والقصة أو قل مايراد من الحديث نفسه ، فتتهيأ لتسمع وترى وتتابع . أما في المرة السادسة فقد ذُكر كلمة { نَبَأ} فالأمر فتنة واختبار لدواوود عليه السلام كما سيمر

وبعد كلمة { حَدِيث } – وهي كلمة عامة – يُذكرالهدف الذي سيق له { هَلْ أَتَاكَ .. } موسى ، وضيف إبراهيم ، والجنود ، والخصم ، والغاشية .. ثم تبدأ القصة

تلا أربعاً منها كلمةُ { إذْ } وهي ظرف يختص بنقل الماضي إليك ، فيضعه أمامك من بدايته ، ثم يبدأ بالقصة تتوالى بدقائقها فيلماً سينمائياً يقتنص اهتمامك ، فتتابعه بشغف ورغبة . و { إذْ } نقلة سريعة للموقف ، حيث يبدأ فوراً بزخم صوره الحية

- ـ في سورة طه يقول تعالى
وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىٰ ؟ فتلتفت نحو مصدر السؤال لترى الجواب يتحدر بسلاسة قائلاً

وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىٰ (9) إِذْ رَأَىٰ نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى 10

من الآية التاسعة إلى غاية الآية الثامنة والتسعين يفصل سبحانه القول منذ أن شد موسى عليه السلام الرحال من مدين إلى مصر مع أسرته فرأى النور عند الشجرة المباركة وكلمه ربه ، فجعله من المرسلين ، إلى إشراك أخيه هارون في الرسالة مع التفاتة إلى فضل الله تعالى عليه منذ أن أرضعته أمه ، ثم ألقته في النهر ، وتبعته أخته تدل أهل فرعون على الأم ، فيعود إليها بفضل الله تعالى . ثم نجد الأخوين يحاججان فرعون ويحاورانه ، ونراهما يعظان السحرة قبل المباراة التي انتهت بإيمان السحرة . ثم انتقام فرعون المتأله من المؤمنين الجدد الذين ثبتوا على الإيمان بالله رغم التعذيب ثم الصلب والقتل . كما نرى المؤمنين بقيادة نبيهم موسى يجتازون البحر ، ثم يتبعهم فرعون فيغرق فيه ، وتنطوي صفحة الظلم فيرى اليهود أنفسهم أحراراً ، إلا أنهم سرعان ما ينتكسون فيطلبون إلهاً حين يرون بعض المشركين يسجدون للأصنام ، ويمضي الحدث مصوراً اتخاذ اليهود عجلَ السامري إلهاً على الرغم من وجود هارون بينهم – وقد استضعفوه - ، ثم تكون محاورة بين موسى والسامري تنتهي بحرق الإله المزيف وعقوبة السامري المنحرف لنصل إلى النهاية الأصيلة في عقيدة المسلم
{(إِنَّمَا إِلَـٰهُكُمُ اللَّـهُ الَّذِي لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98 }


ـ أما في سورة " النازعات " فإننا نعيش قصة موسى نفسها مختصرة في دعوة موسى فرعون إلى التوحيد وعبادة الله الواحد الأحد
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىٰ (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ (17) فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَىٰ أَن تَزَكَّىٰ (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخْشَىٰ (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَىٰ 20

فيأبى المجرم تلك الحقيقة ويدّعي الألوهية ، ويصرح بها كما ذكرها سبحانه وتعالى : { فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ (24)} فأخذه الله أخذ عزيز مقتدر ، وينتهي المشهد بالقاعدة الأصيلة ، قال عز وجل
{(فَأَخَذَهُ اللَّـهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَىٰ (25) إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ (2 }
فهل من معتبر؟

ـ فإذا وقفنا بتأنّ في حضرة سورة الذاريات وجدنا قصة سيدنا إبراهيم حين استقبل الملائكة الكرام ، قال تعالى

{ ...(25) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ }
وعرّج على قصص موسى وفرعون ، وقوم هود وقوم صالح وقوم نوح باختصار شديد ، وبيـّن نهاية الكفار المدبرين عن الإيمان ، ثم أمرنا بالفرار إلى الله تعالى وتوحيده سبحانه ، فهذا الأصل الذي على المؤمن أن يسعى إليه ، قال جل ثناؤه
{(فَفِرُّوا إِلَى اللَّـهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّـهِ إِلَـٰهًا آخَرَ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (51 }



أفر إليك منك ، وأين إلا * إليك يفر منك المستجير


ـ أما في سورة البروج فإننا لا نجد " إذْ " ونجد الهدف : فرعون وثمود ، وسبب حذف " إذْ " وهي - كما قلنا سابقاً - استحضار الصورة – ولا حاجة لاستحضارها فقد ذكرت بالتفصيل في أول السورة
.... قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) ......} فكان المعنى واضحاً والصورة جلية }


ـ كذلك رأينا في سورة الغاشية ما رأيناه في سورة البروج من الاستغناء عن " إذْ " لأن الصورة جاءت مسرعة تتجاوز التهيئة ، وانفتحت تصور حياة الكفار في نار جهنم والعياذ بالله ، فتخلع القلوب وتهز الصدور

ـ ثم نجد قوله تعالى في سورة ص
{(وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21 }

فاحتلت كلمة { نَبَأ } مكان " حديث " فالأمر خطير ، إنه اختبارٌ لجـَلـَد نبي من أنبياء الله مشهور بالإنابة والتوبة وكثرة الذكر ، تسبح الجبال والطير معه ، تكررت في قصته { إذ } مرتين ، قال تعالى
{(وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَىٰ دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ ... (22 }
لقد كان دخولهم فجأة دون إذن فخافهم ، فأخبروه بسبب دخولهم ، ولم يعرف أنهم ملائكة إلا حين اختفوا فجأة كما ظهروا فجأة . وهنا نعيش الامتحان في القضاء الذي ينبغي أن يستمع فيه القاضي لحجة الطرفين ، لا أن يحكم بمجرد أنه سمع اتهام الأول فهـُيـّئ له أنه مظلوم تجب مساعدته ، فأسرع يحكم له ، ثم أحس بخطئه الفادح فخر ساجداً يستغفر الله ويتوب إليه

بقي أن نقول : رأينا في سورة الدهر (الإنسان) قال سبحانه
{(هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا (1 }

فكان هذا التساؤل بمعنى ( قد أتى على الإنسان حين من الدهر ...) وهي معنى آخر غير معنى يصب في التقرير والتأكيد

نسأل الله أن يجعل القرآن ربيع قلوبنا ونور صدورنا
إنه ضياء النفوس وكنز الإيمان ، وقوت القلوب



{ يَسْأَلُونَكَ } / القسم الأول :

وصف أمير المؤمنين عمرُ بن الخطاب عبد َالله بن عباسٍ رضي الله عنهم جميعاً بكلمة ذهبت في الأجيال مثلاً ، قال : " إنه فتى الكهول ، له لسان سؤول ، وقلب عقول " . ولم يبلغ ابن عباس مرتبة الصدارة في العلم لولا السؤال .
والسؤال له بالإضافة إلى الاستعلام والاستفهام فوائد كثيرة نذكر بعضها – من القرآن الكريم - على سبيل المثال لا الحصر

أ*- التأكد من المعلومة :
فهذا يوسف عليه السلام حين أرسل إليه الملك ساقيه ليخرج من السجن وقد عفا الملك عنه ، رغب يوسف عليه السلام أن يخرج بريئاً من التهمة الشنيعة ، ليكون قدوة في الطهر والشرف ، أما العفو فللمذنبين ، ويوسف بريء مما اتهموه به ، فرد المراسل قائلاً له كما في سورة يوسف :
{ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ۚ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)}.
حيث قبل أن تظهر براءته : { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ }
وبعد البراءه ارتفعت مكانته وعظُم في عين الملك كما ورد في نفس السورة :
{ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)} .

ب*- طرح الشك :
لقد أذن الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم أن يسأل الأنبياء قبله حين التقاهم في مسجد بيت المقدس وصلى بهم قبل أن يصعد للسماء ليطمئن قلبه – إن خالجه شك ، وحاشاه أن يشك ، فهو صاحب الدعوة – ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم المؤمنين وأكثرهم يقيناً بالله ، ولكن السؤال مشروع لكل من يشك في أمر ما قال تعالى في سورة يونس :
{ فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94)}
وفي تفسير قوله تعالى في سورة الزخرف :
{وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَـٰنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)} ؟ .
يقول القرطبي رحمه الله تعالى فيما يرويه عن ابن عباس رضي الله عنهما : لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الْمَسْجِد الْحَرَام إِلَى الْمَسجِد الأقصى - وَهُوَ مَسْجِد بَيْت الْمَقْدِس - بَعَثَ اللَّه لَهُ آدَم والمرسلين جميعاً , وَجِبْرِيل مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ;فأذّن جِبْرِيل صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَقَامَ الصلاة , ثُمَّ قَالَ :
يَا مُحَمَّد تَقَدَّمْ فَصَلِّ بِهِمْ ;
فَلَمَّا فَرَغَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; قَالَ لَهُ جِبْرِيل صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
[ سَلْ يَا مُحَمَّد مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلك مِنْ رُسُلنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُون الرَّحْمَن آلِهَة يُعْبَدُونَ ] . فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : [ لا أَسْأَل قَدْ اِكْتَفَيْت ] . قَالَ اِبْن عَبَّاس : وَكَانُوا سَبْعِينَ نَبِيًّا مِنْهُمْ إِبْرَاهِيم وَمُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمْ السلام ; فَلَمْ يَسْأَلهُمْ لأنه كَانَ أَعْلَم بِاَللَّهِ مِنْهُمْ .

ت*- تقوية الموقف بالدليل :
كان يعقوب عليه السلام – لِما رأى من أبنائه الكذب – لا يصدقهم ، فلما حصل مع أخيهم بنيامين ما حصل من سرقة ، وهم لا يدرون أن أخاهم يوسف (عليه السلام) خطط للاحتفاظ بأخيه اعتذروا لعودتهم دون أخيهم – وقد وعدوا أباهم أن يعودوا به إلا أن يُحاط بهم ، فطلبوا إلى أبيهم أن يسأل المسافرين معهم الذين حضروا الواقعة ، قال سبحانه في سورة يوسف :
{ ارْجِعُوا إِلَىٰ أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82)} .

ث*- التحدّي :
فهذا سيدنا إبراهيم يكسر الأصنام الصغيرة حين خرج قومه إلى احتفال كبير مبتعدين عن المعبد الوثني ، وترك كبير الأصنام فلم يكسره ، إنما علق عليه آلة الكسر ، ليبين لقومه سفاهة معتقدهم . فلما عادوا ، ورأوا أصنامهم مكسورة محطمة علموا أن الفتى إبراهيم هو وحده الذي يجرؤ على فعل ذلك . فلما سألوه أنكر ما فعل وأشار إلى كبير الآلهة المزعومة يتهمه على سبيل التحدى ، قال عز وجل في سورة الأنبياء :
{ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَـٰذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ (63)} .
ولن تنطق الأصنام ، ولو كانت تنطق ابتداءً لدافعت عن نفسها ! والقصة معروفة فقد تحرك باعث الخير في أنفسهم ثم نكسوا على رؤوسهم . فقد عشعش إبليس في عقولهم وأفئدتهم ، وسكن الضلال في صدورهم ، وثبت الفساد في كيانهم ... عرفوا الحق ، ورضوا بالانتكاس فحاولوا إحراقه لكن الله تعالى نجّاه . وحين تطاول الكفار على الداعية الأول صلى الله عليه وسلم فقالوا : لا جنة ولا نار ، ولا حياة بعد الموت ، ولئن كانت حياة فنحن في الجنة لا النار !! جاء التحدي والتسفيه لأقوالهم في سورة القلم :
{ سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَٰلِكَ زَعِيمٌ (40)}؟!
وليس هناك من ضامن ولا كفيل ، إن هم إلا يخرصون .

ج*- التقريع والتوبيخ :
يريد بنو إسرائيل من النبي صلى الله عليه وسلم معجزات تدل على نبوّته وحركوا كفار مكة أن يطلبوا ذلك ، فجاء القرآن يوبخهم لأنهم أساءوا إلى نبيهم موسى عليه السلام وقد جاءهم بكثير من الآيات ، وما طلبهم هذا إلا التمادي في الكفر والضلال ، قال جل ثناؤه في سورة البقرة :
{ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّـهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّـهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)} .
لقد شاهد بنو إسرائيل مَعَ مُوسَى آيات بينات واضحات وحججاً قَاطِعَة بِصِدْقِهِ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ من آيات كعَصَاهُ التي انقلبت حية ، وَفَلْقه الْبَحْر وَضَرْبه الْحَجَر وَمَا كَانَ مِنْ تَظلِيل الْغَمَام علَيهِم فِي شِدّة الْحَرّ وَمِنْ إِنزَال الْمَنّ وَالسَّلوَى وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ الآيات الدالّة عَلَى وُجُود الْفَاعِل وَصِدْق مَنْ جَرَتْ هَذِهِ الْخَوَارِق عَلَى يَدَيْهِ ، ومع هَذا أَعْرَضَ كَثِير مِنهُم عَنهَا وبدَّلُوا نِعْمَة اللَّه كفرًا .

أما إن كان في الأسئلة – أياً كانت - إلحاف وخروج عن المألوف فإن الأمر ينقلب إلى ضده ، ويصبح عبئاً لا لزوم له ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه أبو هريرة :
( لا يحب الله إضاعة المال ولا كثرة السؤال ولا قيل وقال )
هذا إذا فهمنا أن السؤال غير طلب العطاء .

سئل النبي صلى الله عليه وسلم – كما روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه - عن أشياء كرهها ، فلما أكثروا عليه غضب ، ثم قال للناس :
سلوني عما شئتم .
قال رجل : من أبي ؟
قال : أبوك حذافة .
فقام آخر فقال : من أبي يا رسول الله ؟ فقال :
أبوك سالم مولى شيبة .
فلما رأى عمر ما في وجهه قال : يا رسول الله ، إنا نتوب إلى الله عز وجل . ولعل هذا سبب نزول الآية الكريمة في سورة المائدة :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّـهُ عَنْهَا وَاللَّـهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)} .


{ يَسْأَلُونَكَ } / القسم الثاني والأخير :

ذُكِرتْ { يَسْأَلُونَكَ } في القرآن الكريم خمس عشرة مرة تدل على أن السؤال مفتاح العلم والسبيل إلى الوضوح والحياة الأمثل . فماذا نفهم من { يَسْأَلُونَكَ } ؟

1 - الفعل جاء في صيغة المضارع الذي يفيد الاستمرار ، فلا بد من السؤال الموصل إلى الجواب ، وأعتقد أنه يستحسن طرح السؤال على العالم كي يتحدث في مواضيع يحتاجها الناس ، وهذا أفضل – في ظني - من موضوعات يختارها العلماء والمحاضرون قد تكون مفيدة ، وقد يكون غيرها أولى منها وأكثر فائدة . والسؤال دليل على أن صاحبه يود معرفة الحقيقة ليلتزمها ، ويعمل بها ، وهذه إيجابية لو كثرتً في الأمة فهي بخير .

2 - والمسؤول " ك ( الكاف ) تنبيه إلى أنّ على السائل أن يسأل العالم البصير ، لا الرجل الغرير ، فذلك البصير الحاذق يدله على الخير ، ويوضح له المسألة ويأخذ بيده إلى موطن النجاة ومسلك الصواب . كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سيد العلماء . وعليهم – من بعده – أن يسألوا من يسير على خطاه ، ويهتدي بهديه . أما الجاهل فيَضل ويُضِل .

3 - ولا بد من تحديد السؤال ليكون الجواب محدداً : يَسْأَلُونَكَ ... ( عن الشهر الحرام ، قتال فيه ، عن الخمر والميسر ، عن اليتامى ، عن المحيض ، عن الساعة ، عن الأنفال ، عن الروح ، عن ذي القرنين ، عن الجبال ، ماذا ينفقون ) ولو كان السؤال عاماً فلن يشبع المتلقي ، وستكون الفائدة أقل مما ينبغي وما يسأل الإنسان إلا عن شيء يشغل باله ، فإذا سمعه تلقفه فلم ينسَه .

4 - فإذا سئل العالم أمراً وهو يعرفه وقت السؤال أو بعد الدراسة والتمحيص فلا بد أن يجيب عنه ، إن ذلك أمانة في عنقه يحاسب عنها يوم القيامة ، ويشكر عليها في الدنيا والآخرة . لذا جاء الأمر الإلهي : { قُلْ } فالساكت عن الحق شيطان أخرس ضيع الأمانة وترك السائل في ضلال ، " والمسلم أخو المسلم " . والأمر بالإجابة { قُلْ } جاء في كل الآيات غير الغيبية المبذولة للتعلـّم أو التي لا تتحملها العقول ، كقوله تعالى في بعض الإجابات : { قُلِ الْأَنفَالُ لِلَّـهِ وَالرَّسُولِ ... (1)} ، وحين سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الخمر والميسر قيل له كما في سورة البقرة : { قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ...(219)} ، وحين سئل على الحل أجاب كما في سورة المائدة { قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ (4)} وحين سئل عن القتال في الشهر الحرام كان الجواب كما في سورة البقرة :
{ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّـهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّـهِ ۚ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ... (217)} ،
أما في السؤال عن الغيب { يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا } (الأعراف والنازعات) ، فمرة نجد الإجابة دون { قُلْ } كما في سورة النازعات :
{ فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا (43) إِلَىٰ رَبِّكَ مُنتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)} ، فكان الجواب من الله تعالى مباشرة ،
ومرة ذكر الفعل { قُلْ } كما في سورة الأعراف :
{قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ۚ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّـهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187) ،
فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن علمها عند الله سبحانه .
وأما السؤال فيما لا تتحمله عقول الناس على عهده صلى الله عليه وسلم وتـُرك للزمن اكتشافه فكان الجواب بأسلوب الحكيم وهذا الغرض البلاغي في سورة البقرة يفيد أن عليكم أن تعرفوا الفائدة من الأهلـّة :
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ..(189)} ، وتصور معي أخي القارئ لو أجابهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يجيب العلم عن كروية الأرض ودورانها حول الشمس، ودوران القمر حول الأرض ، وما ينتج من حجب الأرض لضوء الشمس عن القمر حين تتوسط بينهما ..لقد كان الجواب الحكيم ذكر الفائدة من القمر فقط . ولا ننسَ أن الأجوبة كانت شافية ودقيقة . تفي بالغرض من طرح الأسئلة ، ولا ننس كذلك أن الجواب حين يكون قاصراً يضطر السائل أن يعيد طرحه مرة أخرى على علماء آخرين حتى يجد بغيته ، فينبغي على العالم أن يكون جوابه شافياً مريحاً يفهمه المتلقي ويستوعبه .

5 - ثم نجد بعد الجواب الشافي تنبيهاً إلى التقوى والطاعة في قوله تعالى بعد الإجابة عن الأنفال :
{ فَاتَّقُوا اللَّـهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّـهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (1)} ،
ونجد بعد السؤال عن الشهر الحرام في سورة البقرة التوضيح الهام الذي يؤكد أن أعداء الله لن يقر لهم قرار حتى يؤذوا المسلمين ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً : { ... وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُم ْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ..... (217)} ،
ونجد بعد السؤال عن المحيض والإجابة عنه في سورة البقرة أمراً بالتوبة والتطهّر لإرضاء الله تعالى ونيل حبه سبحانه :{ ... إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِي نَ (222)} .

ولو عدت أخي القارئ إلى أواخر هذه الآيات التي نتحدث عنها لوجدت التربية القرآنية تتجلى في تزكية النفس وبناء المجتمع المسلم الطاهر الذي يحبه الله تعالى ويرضاه ، فاحرص على العودة إليها والتخلق بأخلاقها .
نسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علـّمنا ، فهو ولينا ومولانا ، ونعم المولى ونعم النصير



يتبع




امانى يسرى محمد متواجد حالياً   رد مع اقتباس