09-04-2025, 08:54 PM
|
#2
|
مشرفة قسم القرآن
|
حبّ الدنيا رأس كل خطيئة
(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10))سورة البقرة
( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ)
حب الدنيا مرض، حب الدنيا يعمي ويصِم، حب الدنيا رأس كل خطيئة، لكن ليس من حب الدنيا أن يكون لك بيت تشتريه بمالك الحلال، ليس هذا من حب الدنيا، وأن تحب أن تقترن بامرأةٍ صالحة، ليس هذا من حب الدنيا، و أن تحب أن يكون لك دخلٌ حلال، ليس هذا من حب الدنيا، حب الدنيا ما حملك على العدوان، وعلى أخذ ما ليس لك، على أن تعتدي على أموال الآخرين، وعلى أعراضهم، وأن تنافس الناس على الدنيا، وأن تحطِّمَهُم من أجل مصلحتك، هذا هو حب الدنيا الذي هو رأس كل خطيئة..
(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا (10)
من مرض إلى مرض، كان بالنظر فأطلق البصر، إطلاق البصر نقله إلى الحديث اللطيف مع الجنس الآخر، نقله الحديث إلى لقاء، واللقاء انتهى به إلى الزنا، والزنا انتهى به إلى السجن، ثم إلى مرض الإيدز، بدأ من نظرة.. هكذا سمعت أن سائقاً ركبت معه امرأة.. سألها: إلى أين ؟ قالت له: إلى حيث تشاء، فهِم، وعدَّ هذا مغنماً كبيراً، وبعد أن انتهى أعطته رسالةً، وظرفاً فيه مال، فتح الظرف.. وجد خمسة آلاف دولار.. ورسالة مكتوب فيها: مرحباً بك في نادي الإيدز، نقلت له المرض، ذهب ليصرف المبلغ، فإذا هو مزور، فأودِع في السجن.
( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ )
المرض حبُّ المال، من أجل حب المال نفعل كل شيء، لذلك يغيرون خلق الله عزّ وجل، هل من الممكن أن تضع مادة في بعض المواد الغذائية، وهي مادة كيميائية محضة لا يقبلها الجسم لتُبَيِّض هذا المنتج فيزداد سعره ؟
حب المال جعلهم يفسدون هذا المنتج..
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) البقرة
هذا الماء غير فاسد، لأنه لا لون له، ولا طعم، ولا رائحة، كيف نفسده ؟
إذا غيَّرنا لونه، أو طعمه، أو رائحته، وإفساد الشيء إخراجه عن صفاته الأساسية، إفساد الفتاة إخراجُها عن العِفَّة والحياء، إفساد الموظَّف إخراجه عن خدمة المواطنين، إفساد القاضي إخراجه عن العدل، إفساد الطبيب إخراجه عن النصح للمريض، إفساد المُحامي أن يكذب على موكِّليه، إفساد المدرِّس أن يعطي المعلومات الصغيرة في وقتٍ مديد، أي لم يعلمهم شيئاً، أخذ مبلغاً من المال ولم يُعلِّم شيئاً، فكل حرفة، وكل شخصية، وكل هوية لها طريقٌ قويم، ولها طريقٌ فاسد، فالمنافق يريد شهوات الدنيا فيفسد المرأة بإغرائها أن تُسْفِر، وأن تعرض مفاتنها للناس في الطريق، يُغْري إنساناً أن يأخذ المال الحرام....
( قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ)
طبعاً يصلحون جيوبَهم، يصلحون معيشتهم وحدهم، ويبحثون عن مصالحهم الضَيِّقة
يرى الصلاح في الفساد، يرى ربحه هو الصلاح ولو على حساب كل شيء..
(أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) )
أعظم أنواع الفساد
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)
أعظم أنواع الفساد أن تُفْسِد العقيدة، أن تفسد دين الإنسان،
أن تُعَلِّقَهُ بأوهام ما أنزل الله بها من سلطان
أن تُعَلِّقَهُ بحديثٍ موضوع، أن تعلقه بحديثٍ ضعيف، أن تعلقه بتأويلٍ غير صحيحٍ لآيات الله، أن تأتيه بقصص لا أصل لها في الدين، أن تأتيه بِقِيَم رفضها الإسلام
البعض يمارس مصلحة مبنية على المعصية، يقول لك: هذه مصلحة رائجة الآن، يبدِّل مصلحته فوراً إلى مصلحة أو إلى حرفة أساسها إفساد الشباب،
يقول لك: هذه أربح، يقول لك: أليس العمل عبادة ؟
تكون حرفته غلط كلها، فساد كلها، يعُدّ العمل عبادةً !!
فقضية الفساد صفةٌ جامعةٌ مانعةٌ للمنافق
يرى الصلاح بكسب المال، يرى الصلاح بتحقيق المتعة، يقول لك: أنا أستخدم في العمل فتيات لأنهن أكثر إيناساً، وأقل مَؤونَةً، وأكثر طواعيةً، وأحفظ سراً، يرى ميزات عمله فقط، والناحية الثانية يُغْفِلُها، وهي هذا الشاب الذي ينتظر عملاً ليتزوج، لقد أصبح الطريق مسدوداً أمامه.
طبعاً لا يشعر، هو في أعماقه يشعر أنه فاسد،
ولكن لا يشعر أن هذا العمل له آثار قد لا تَخْطُر في باله.
فرضاً من باب الجدل، لو أن إنساناً أفسد فتاة، يشعر أنه أفسدها، وأخرجها عن طبيعتها، وعن قوامها الذي أراده الله لها، خلقها الله لتكون زوجة طاهرة تنجب أولاداً، فَلِذة أكبادها، فلما أفسدها أخرجها عن طبيعتها، وجعلها تمتهن الانحراف، هو لا يشعر أنه بعد مئة عام قد يأتي من نسلها مئة ألف، مئة ألف فتاةٍ فاسدة، كلهن في صحيفة هذا الذي أفسد الأولى، هذا معنى قوله تعالى:
(إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ (12) ( سورة يس)
لو اطلع الإنسان على الآثار الوبيلة التي يتركها عمله لارتعدت فرائصه، كل هذا محاسبٌ عليه، يسُنُّ الإنسان أحيان سنةً سيئةً فعليه وزرها، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، الذي اخترع البارود، شعر بجريمته بعد أن اخترع البارود، فرصَدَ كل أمواله كجائزة سنوية لمن يُقَدِّم أعظم بحثٍ يعود على الإنسانية بالخير.
الحديث عن الفساد حديث طويل، فالهدف عند المنحرفين أن تفسد من أجل أن تربح، الإفساد من أجل أن تربح المال، أو أن تنغمس في الشهوة، الهدف إما ربح مال، والمال مادة الشهوات، أو تحقيق لذَّة دنيا سافلة، فإما أن يتمتَّع، وإما أن يكسب المال، من أجل هذين الهدفين يفعل كل شيء، ويفسد كل شيء، ويحرِف كل شيء، ويزوِّر كل شيء.
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)
يركبون رؤوسهم، يتعنَّتون.
قصص من العالم عن انتشار الفساد بما كسبت أيدي الناس:
لكن الله سبحانه وتعالى قوله الحق:
( أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) )
من هو السفيه ؟
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ)
من هو السفيه ؟
هو الذي يُضَيِّع النفيس ويأخذ الخسيس، فإذا أتلف إنسان ماله فرضاً، أو أنفق ماله إنفاقاً غير معقول نسميه سفيهاً، والسفيه يُحْجَرُ عليه، فأيهما أثمن ؟
والآن كلام دقيق، من هو السفيه الحقيقي ؟
إذا رأيت إنساناً يمسك مئة ألف ليرة عدَّها أمامك، ثم جاء بعود ثقاب فأحرقها أمامك، ثم ألقى الرماد في سلة المهملات، ألا تعتقد أنه مجنون، أو أنه سفيه ؟
مئة بالمئة،مثل هذا الإنسان الذي يُحْرِق مئة ألف يُحْجَر على تصرفاته لأنه سفيه
فإذا ضيَّع الوقت أمامك ألا تعده أشد سفاهةً ؟
بالتأكيد
أخطر شيء أن تُمضي سهرة إلى الساعة الواحدة ؟
لمتابعة مسلسل، شيء سخيف، بمتابعة قصة فارغة، بمتابعة حديث فارغ، بلعب النرد، هذا الذي يقتل وقته، أنت وقت، أنت بضعة أيام فقط، كلما انقضى يومٌ انقضى بِضْعٌ منك، أثمن شيء تملكه هو الوقت، طبعاً أثمن من المال بما لا يُقَدَّر، ماذا يفعل الإنسان بالمال عندما تنتهي حياته ؟
فلو ترك ألف مليون، انتهت حياته، الوقت هو وعاء كل شيء فإذا أُلْغي هذا الوعاء انتهى كل شيء، مركبٌ في أعماق كل منا أن الوقت أثمن من المال، فالذي يتلف ماله يُعَدُّ سفيهاً، والذي يُضَيِّع وقته يعد أشد سفاهةً.
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ )
قيمة الإنسان في آخر الزمان
بقيمة متاعه فقط لا بإيمانه ولا بأخلاقه :
لعلهم يتوهمون أن الفقراء هم السُفهاء، فالسفهاء في رأيهم تعني الفقراء لأن مقاييسهم ماديَّة محضة، يُقَدِّرون الإنسان بحجم ماله، بنوع بيته، بمساحة بيته، بموقع بيته، بنوع مركبته، بالرقم الذي على خلف المركبة، فحجم الإنسان عند هؤلاء السفهاء بحجم متاعه، وقيمة الإنسان في آخر الزمان بقيمة متاعه فقط، لا بإيمانه، ولا بأخلاقه.
كان الأحنف بن قيس إذا غضب غَضِبَ لغضبته مئة ألف سيف لا يسألونه فيما غضب، مع أنه كان قصير القامة، أسمر اللون، غائر العينين، ناتئ الوجنتين، أحنف الرجل، ضَيِّق المَنْكِبَين، ومع ذلك كان إذا غَضِب غَضِبَ لغضبته مئة ألف سيف لا يسألونه فيما غَضِبْ، فقيمة الإنسان بإيمانه، وأخلاقه، وعمله.
(أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ )
غاص إنسان في البحر، وتَجَشَّم المشاق، ورأى اللآلئ أمامه
فتركها وأخذ الأصداف ألا يُعَدُّ سفيهاً ؟
فهذا الذي يأتي إلى الدنيا، ويخرج منها، وما فعل شيئاً، إلا أنه أكل، وشرب، ونام، واستمتع فقط كالبهائم.
( إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً )
حينما ترى الله يتابع نعمه عليك وأنت تعصيه
فأحذره
(اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) سورة البقرة)
هذه سُنَّة الله في خلقه، أنت إنسان مخيَّر، ولا بدَّ أن تأخذ أبعادك كلَّها، ولا بدَّ أن يسمح لك أن تصل إلى نهاية الطريق، إلى هنا حدود الفساد، إلى هنا حدود الانحراف، لا بدَّ من أن يُرْخ لك الحبل، لذلك حينما ترى الله يتابع نعمه عليك وأنت تعصيه فاحذره، هناك قصد، إذا وجدت النعم، ووجدت القوة، ووجد المال، ووجدت الوسامة، وهناك انحراف، وكفر، فهذا الإنسان يحتاج إلى ضربةٍ واحدة:
( إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) ( سورة يس)
عندما يُعَالج ربنا عزّ وجل الإنسان بالتدريج هذه نعمةٌ عظمى، عندما يتابعه ويُحاسبه على ذنوبه ذنباً ذَنباً , وخطيئةً خطيئةً، هذه نعمةٌ كبرى، عندما يغلط يخطأ المؤمن فيأتي العقاب فوراً هذه نعمةٌ ما بعدها نعمة، أي أن الله سبحانه وتعالى يتابعك، ويربِّيك، أما حينما يتابع الإنسان كل المعاصي، والانحرافات، والله عزّ وجل لا يعالجُهُ، فإن هذه علامة خطيرة جداً، أنه سوف يقْصم قَصْماً.
كل إنسان تحت ألطاف الله عزّ وجل:
قال تعالى:
( اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) )
يُمَدُّ له، يُرْخى له الحبل، لكن دقق الإنسان في قبضة الله، في أية لحظة تنقلب حياته إلى جحيم، بأي لحظة ينقلب أمنه إلى خوف، خوف مدمِّر، ينقلب غناه إلى فقرٍ شديد في أية لحظة، وفي أية لحظة تنقلب قوته إلى ضعفٍ شديد، الله هو القوي يقوي الإنسان وفي أية لحظةٍ يضعفه، الله هو الغني يغني إنساناً وفي أية لحظةٍ يفقره، الله عزّ وجل يُمِدُّ إنساناً وفي أية لحظة يأخذ منه، الإنسان تحت ألطاف الله عزّ وجل
معنى
( يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ )
يحتقر عملهم، يحتقر سخافتهم، أحياناً الإنسان بسذاجةٍ، بضيق أفقٍ، بجهلٍ فاضح يظُنُّ أنه إذا خدع الناس فهو ذكي، أنه إذا خدعهم، وأقنعهم بشيء، وهو على خلاف ذلك فهذه حِنْكة ما بعدها حنكة، هذا حَمقٌ ما بعده حمق، علاقتك بالله وحده، وأنت عند الله مكشوف، وهؤلاء الذين تَخْدَعُهم وتوهمهم لا يملكون لك ضراً ولا نفعاً، ولا حياةً ولا نشوراً، تخدع إنساناً ضعيفاً، تصوروا إنساناً عمره أربعون سنة، وأمامه طفل عمره خمس سنوات مثلاً وهو يحاول أن يقنعه أنه غني، فإذا أقنعتَه أو لم تُقنعه ماذا يفعل هذا الطفل أمامك ؟ شيء لا يُصدَّق، فكل إنسان ينسى الله، ينسى أن الله يكشفه، ينسى أن الله مُطَّلعٌ على سرائره ويخدع الناس، إذا توهَّم أنه حاذقٌ ومُحَنَّك فهو أحمق، لأن هذا الذي تخدعه لا يملك لك نفعاً، ولا ضراً، ولا حياةً، ولا نشوراً، ولا رزقاً، ولا أمناً.
تجارة المؤمن رابحة أما تجارة الكافر فخاسرة
﴿ فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ (16) ﴾
عملية تجارية، حياتك سنوات محدودة،
إذا قلنا لشخص:
تمتع بمئة مليون خلال سنة، وسوف تدخل إلى السجن لتمضي عشر سنوات مع التعذيب، هل يقبل هذا ؟
لا أحد يقبل، فلو تمتع سنة، وعشر سنوات تعذيب، فإنه لا يقبل
كيف إذا كانت الدنيا من الآخرة ليست بشيء ؟
لا أحد ينتبه أبداً إذا كان رقم واحد في الأرض وأصفار إلى الشمس، وبين الأرض والشمس مئة وستة وخمسين مليون كيلو متر وكل ميلي متر صفر، ما هذا الرقم ؟ هذا الرقم إذا قيس باللانهاية قيمته صفر، تصور الرقم واحد بالأرض، وأمامه مئة وستة خمسون مليون أصفار، كل ميليمتر صفر، فكيف إلى المشتري ؟
كل ميلي متر صفر، هذا الرقم إذا قيس باللانهاية الآخرة قيمته صفر، فهؤلاء الناس من أجل عشر سنوات معدودات؛ فسق، وفجور، وانحراف، وأكل مال حرام، ويدع ساعة الموت خارج كل حساباته،
يأتي الموت فجأةً فإذا الإنسان في قبضة الله عزّ وجل.
﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16) ﴾سورة البقرة
فما ربحت تجارتهم، كأن الله سبحانه وتعالى يجعل علاقتك به نوعاً من التجارة تقدم له شيئاً ويعطيك أشياء:
﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً ﴾[ سورة البقرة: 245 ]
أيّ عمل صالح في الأرض هو إقراض لله عز وجل :
أيّ عمل صالح في الأرض هو إقراض لله عز وجل، وسوف تكافأ عليه يوم القيامة
فلأنّ أهل مكة كانوا تجاراً فالله سبحانه وتعالى يخاطبهم على قدر عقولهم، أي أيها المؤمن إذا تاجرت مع الله تربح ربحاً مجزياً، وإن أردت الدنيا وضيعت الآخرة، إن اشتريت الضلالة بالهدى تشتري العذاب بالمغفرة، إن اشتريت الدنيا وبعت الآخرة اخترت الخسيس وتركت النفيس، فربنا عز وجل يقول:
﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ﴾[ سورة التوبة: 38 ]
هذا الذي آثر الدنيا على الآخرة.. آثر القليل على الكثير.. وآثر الخسيس على النفيس.. وآثر الذي يفنى على الذي يبقى.. وآثر دنيا محدودة مشغولة بالمتاعب على جنة كلها مسرات وسعادة، فالإنسان كلما رجح عقله ازداد حبه لله عز وجل
أرجحكم عقلاً أشدكم حباً لله.
﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ﴾سورة البقرة 17
معان متعددة لآية
(استوقد ناراً)
1ـ المعنى الأول أن المنافق يريد من النار أن تضيء له حياته ليكون سعيداً:
أراد المنافق من النار ضوءها طبعاً، قد تُريد النار من أجل الدفء، وقد تُريدها من أجل طهو الطعام، وقد تُريدها من أجل النور. هنا أراد الله عزَّ وجل أن يبيِّن لنا أن المنافق يريد من النار أن تضيء له حياته، أن تكون حياته سعيدة، فيها بهجة، فيها عِز، فيها فخامة، فيها رفاه، وكم من بيتٍ فخمٍ لم يسكنه صاحبه، وكم من مركبةٍ فارهةٍ ركبها أياماً معدودة، ثم فاجأه ملك الموت، هذا الذي يجعل كل مكتسباته محصورة في الدنيا، يقامر ويغامر.
المؤمن له مستقبل، والمؤمن يأتيه ملك الموت، ولكن يأتيه ملك الموت وله عند الله رصيدٌ كبير، قدَّم ماله أمامه فسهُل عليه اللحاق به، رصيده عند الله كبير، استقامته، وطلبه للعلم، وعمله الصالح، ونفعه للمسلمين، صدقه، وأمانته، وتربية أولاده، هذه كلها أرصدة هائلة مودَعَةٌ له في الآخرة، فإذا فاجأه الموت يقول له: مرحباً، الموت تحفة المؤمن، الموت عرس المؤمن، لا تكن أيها الأخ الكريم كالذي وضع كل إمكاناته في الدنيا، هذه الإمكانات العالية في الدنيا تُنهيها جلطة، تنهيها سكتةٌ قلبيةٌ مفاجئة، تنهيها خثرةٌ دماغية، ينهيها نمو الخلايا العشوائي، أما الذي له عند الله رصيدٌ كبير من العمل الصالح، ومن الانضباط الشرعي، ومن الدعوة إلى الله، لو جاءه الموت، الموت تحفته، الموت عُرسه.
2ـ المعنى الثاني رفض المنافقين لدعوة النبي التي كانت ستوصلهم للسعادة في الدنيا والآخرة:
المعنى الثاني في هذه الآية أن اليهود كانوا يتحدَّوْنَ المنافقين قبل مجيء الرسالة النبوية بقولهم: آن أوان مجيء نبيٍ نؤمن به، فالمنافقون كان عليهم أن يؤمنوا بهذا النبي ليتحدّوا اليهود الذين بشروهم بهذا النبي، فلما جاء النبي الذي كانوا ينتظرونه، وكانوا يبحثون عنه، كي يردوا على كيد اليهود، وكي يقفوا أمامهم نداً لند، كذَّبوا به، فهم استوقدوا ناراً، فلما أضاءت ما حولهم أذهب الله نورهم الذي كان من الممكن أن يُرْشِدهم إلى طريق السعادة في الدنيا والآخرة برفضهم لدعوة هذا النبي.
3ـ المعنى الثالث أنهم كفار حقيقة لكن مصالحهم تعلقت بالمؤمنين فأظهروا ما لا يبطنون:
المنافق يظهر عكس ما يُبطن
هؤلاء المنافقين هم في الحقيقة كُفَّار، ولكن مصالحهم تعلَّقت بالمؤمنين، فأعلنوا إسلامهم، وأخفوا كفرهم، وهم أرادوا الدنيا فقط، هؤلاء انتفعوا بكفرهم، ولكنهم يختلفون عن الكافرين بأن لهم مصالح مع المؤمنين، فأظهروا ما لا يُبطنون، وأعلنوا ما لا يُسِرُّون، والدليل على ذلك:
﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) ﴾
لا يسأل ، لأن الأمر لا يعنيه إطلاقاً ، ولا ينطق بالحق ، هو لا ينطق بالحق من باب أولى ، وهو لا يسأل ، لأن لسانه لا يستخدمه إلا للدنيا ، للغيبة والنميمة ، للحديث عن النساء ، للحديث عن مظاهر الدنيا .
. لا يرى الحقائق ، لا يرى الآيات الدالة على عظمة الله ، لا يرى أفعال الله عزَّ وجل التي تهتز لها القلوب .
كيف يرجعون وهم على ما هم عليه من الصمم ، من الخَرَس ، من العَمَى ؟!!
{ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ (19) } .
ينخلع قلبه لذكر الموت ، هناك أُناسٌ يكرهون القرآن ، لماذا ؟
لأنه يُتلى في مناسبات الحُزن ، كأن القرآن يذكِّرهم بالموت
هناك أناسٌ يكرهون بعض النباتات لأنها توضع على القبور ، يكرهون كل شيءٍ يذكِّرهم بالآخرة من شدة تعلُّقهم بالدنيا ، حتى أنك لا ترى في بعض البلدان جنازة إطلاقاً ، من المستشفى بسيارة إسعاف إلى المقبرة لا ترى فيها نعياً على الجدران
بلادٌ كثيرة إسلامية النعي فيها ممنوع ، الجنائز ممنوعة ، لا ترى الموت على الإطلاق
{ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ (19) } .
يحب ألا يسمع الكلام الذي يُزعجه ، يضع إصبعه في أُذنه ، وهذا واقع ، تتحدث حديثاً عن الآخرة تجده يتثاءب ، اعتذر لأن عنده موعد ، اجعل الحديث عن الدنيا تجده جلس معك حتى الساعة الواحدة ، ولم يقل لك : عندي موعد ، ما دام الحديث عن الدنيا هو مصغٍ إليه ، كتلة نشاط وحيوية ، حدثه عن الآخرة تجده تململ وتثاءب وتأفف واعتذر . يظنون إذا تجاهلوا ذكر الموت ، وإذا تجاهلوا الدار الآخرة ، أنهم لا تصيبهم الآخرة ولا يموتون
{ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا (20) } .
إذا نجح ابنه بتفوق فإنه يحب الجامع الذي فيه ابنه ، وشيخ ابنه ، ويقول له : يا بني خذ أخاك معك إلى الجامع ، وإذا رسب ابنه عزا كل أخطاء ابنه للشيخ والجامع ، الجامع ليس له علاقة بالموضوع ، ابنك هو المقصِّر ، لا يوجد عنده حل موضوعي ، إنه يميل مع مصالحه .
|
|
|
|