الفرق بين النبي والرسول:
قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ}.. [البقرة : 87].
﴿ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ (87) ﴾
النبوَّة شيء والرسالة شيءٌ آخر، الرسول معه كتابٌ من عند الله، معه رسالة، معه رسالةٌ جديدة تنسخ الرسالة السابقة، أما النبي يرسله الله عزَّ وجل كما يرسل الرسول ؛ ولكن النبي يُرْسَل ليشرح رسالةً سابقة، فسيدنا لوط، وسيدنا زكريَّا، وسيدنا يحيى:
﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ (78) ﴾
( سورة غافر: من آية " 78 " )
هؤلاء جاؤوا ليشرحوا لأقوامهم كتاب الله عزَّ وجل، ليشرحوا التوراة، فسيدنا موسى نبيُّهم الأول، أنزل الله عليه التوراة، والأنبياء الذين جاؤوا من بعده شرحوا لأقوامهم مضمون هذا الكتاب، فالرسول معه كتابٌ من السماء، أما النبي فقد أرسله الله للمؤمنين ليشرح لهم كتاباً سابقاً، كل رسولٍ نبي وليس كل نبيٍ رسول.
لكن الشيء الذي ينبغي أن نقف عنده وقفةً متأنيَّة هو: أن كمال الله عزَّ وجل يقتضي إرسال الرسل، حينما يخلق الله خلقه دون أن يعلمهم بسرِّ خلقهم، دون أن يعلمهم بمنهجه الذي يؤدي إلى سلامتهم وسعادتهم فهذا يتناقض مع كماله، فحينما تُعَطِّلُ مفهوم الرسالة فقد وصفت الله بما لا يليق به، وأوضح مثل ؛ أب جالس في بيته وابنه الصغير اقترب من المدفأة، هل يبقى ساكتاً ؟ هل يبقى جالساً ؟ أم ينطلق لينصحه ويبعده ؟ وقد يقوم من مكانه ليأخذه، فمن مستلزمات كمال الله عزَّ وجل ألا يترك عباده معطَّلين عن الأمر والنهي.
إرسال الأنبياء والرُسُل من لوازم كمال الله:
النقطة الدقيقة أن هذا الكون المادي الذي هو تحت سمعنا وبصرنا ينطق بعظمة الله، ينطق بوجوده، وينطق بوحدانيَّته، وينطق بكماله، هذا الكون ينطق بكمال الله، ومن مستلزمات كمال الله ألا يدع عباده معطَّلين عن الأمر والنهي والمعرفة، لا بد من أن يبلِّغهم، خلقهم في الدنيا ليعملوا عملاً صالحاً هو ثمن سعادتهم الأبديَّة في الآخرة، خلقهم في الدنيا ليتعرَّفوا إلى الله، ليتعرَّفوا إلى منهجه، ليتعرَّفوا إلى سرِّ وجودهم وغاية وجودهم، ما من قومٍ إلا وأرسل الله لهم نبياً لقوله تعالى:
﴿ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ(7) ﴾
( سورة الرعد )
إرسال الأنبياء والرُسُل من لوازم كمال الله، كما أن من بديهيَّات الأبوَّة أن ينصح الأب ابنه، وأن يأمره، وأن ينهاه، فإذا بقي ساكتاً والأخطار محدقة بالابن هذا ليس أباً، المثل مُبَسَّط وواضح، فالله عزَّ وجل ما كان ليخلق الخلق ثمَّ يدعهم هكذا في جهالةٍ جهلاء:
﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾
( سورة البقرة: من آية " 213 " )
فاختلفوا:
﴿ فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ﴾
( سورة البقرة: من آية " 213 " )
على كلٍ فالله عزَّ وجل قال:
﴿ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى(12) ﴾
( سورة الليل )
حيثما جاءت (على) مقترنةً بلفظ الجلالة تعني أن الله جلَّ جلاله ألزم ذاته إلزاماً، فالله عزَّ وجل عليه أن يهدي خلقه.
الأمر كله بيد الله وحده
﴿ وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ (87) سورة البقرة ﴾
أنت عندما يأتيك كتاب هذا الكتاب لكل المسلمين، فيه أمر، فما هو موقفك من الأمر ؟ فيه نهي، فيه وعد، فيه وعيد، فيه تشريع، فيه حلال، فيه حرام، فيه مواعظ، فيه قصص الأقوام السابقة، فيه المستقبل البعيد، ما موقفك من هذا القرآن ؟ الموقف العامِّي يقول لك: تباركنا ويقبِّله، وهذا غير كافٍ بل إن هذا القرآن منهج، هل أحللت حلاله ؟ هل حرَّمت حرامه ؟ هل صدَّقت وعده ووعيده ؟ والله الذي لا إله إلا هو إن صدَّقت إنساناً قوياً من بني جلدتك يفعل ما يقول فإنك لا يمكن أن تخالفه أبداً، فهل تصدِّق أن الله عزَّ وجل بيده كل شيء ؟
﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ ﴾
( سورة هود: من آية " 123 " )
الله عزَّ وجل يمتحن المؤمنين، يمتحنهم امتحاناتٍ عديدة، قد يمتحنهم بأنه يقوي الكفَّار عليهم، هل ينسون ربَّهم؟
هل يؤلِّهون غيره ؟
آيات من الذكر الحكيم تطمئننا أن الأمر كله بيد الله وحده:
نحن في هذه الأيَّام في أشدِّ الحاجة إلى القرآن ليطمئننا أن الأمر بيد الله وحده:
﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ﴾
( سورة هود: من آية " 123 " )
ليطمئننا أن:
﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيل﴾
( سورة الزمر )
ليطمئننا أن:
﴿ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ﴾
( سورة الأعراف: من آية " 54 " )
ليطمئننا أنه:
﴿ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً ﴾
( سورة الكهف )
ليطمئننا أنه:
﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ ﴾
( سورة الزخرف: من آية " 84 " )
ليطمئننا أن:
﴿ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ﴾
( سورة الفتح: من آية " 10 ")
ليطمئننا أن يدَ الله تعمل وحدها، وكل ما تقع العين عليه من قِوى الشر إنما هي عصيٌ بيد الله عزَّ وجل، يؤكِّد هذا المعنى قول الله عزَّ وجل:
﴿ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) ﴾
( سورة هود)
آيات أخرى من الذكر الحكيم نحن في أمس الحاجة إليها لتطمئننا:
نحن في أمسِّ الحاجة إلى هذه الآيات:
﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ(42) ﴾
( سورة إبراهيم )
وقال:
﴿ لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ(196)مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ(197) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَواْ رَبَّهُمْ ﴾
( سورة آل عمران )
وقال:
﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) ﴾
( سورة الأنعام: من آية " 44 " )
هذه حقائق مريحة، قد ترى قِوى الشر متمكِّنة، قِوى الشر تفعل ما تريد، قِوى الشر تُنْزِل أشدَّ العقاب في إنسانٍ يبدو لك بريئاً، لئلا يختلَّ التوازن ينبغي أن تعرف الحقيقة: وهي أن الأمر بيد الله.
﴿ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87) ﴾
هناك مشكلة، المشكلة هي أن ثمن الجنَّة هو التناقض بين التكليف والطَبع، الإنسان يشتهي أن ينام، والتكليف يأمره أن يستيقظ، فإذا عاكس رغبته في النوم وصلَّى الفجر يرقى عند الله، طبع الإنسان يقتضي أن يملأ عينيه من محاسن النساء، والتكليف يأمره بغض البصر، فإذا عاكس شهوته وغضَّ بصره يرقى عند الله، يقتضي طَبع الإنسان أن يأخذ المال، والتكليف يأمره أن ينفق المال، فإذا عاكس شهوته وأنفق المال يرقى عند الله، أن تعاكس شهوتك هو ثمن جنَّة ربِّك، بدليل قول الله عزَّ وجل:
﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى(40)فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى(41) ﴾
( سورة النازعات)
أنواع المعاصي:
قال تعالى:
﴿ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87) ﴾
طبعاً التكذيب جريمة، إنسان معه دليل، إنسان أرسله الله ليسعدك، لينقذك من الشقاء، ليجعلك معافىً سليماً سعيداً في الدنيا والآخرة فكذَّبته، وأشد من التكذيب القتل:
﴿ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87) ﴾
المعاصي نوعان:
معاصي استكبار، ومعاصي غَلَبَةَ:
(( الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما قذفته في النار))
[الجامع الصغير عن ابن عبَّاس رضي الله عنه ]
إنسان جاءه ضيوف وعنده كيلو لبن، والضيوف كُثُر، يمكن أن يضيف لهذا الكيلو من اللبن خمسة كيلو من الماء، ويجعله شراباً طيباً مستساغاً بارداً في الصيف، لكن هذا الكيلو من اللبن لو أضفت له قطرة من زيت الكاز يفسد، يتحمَّل خمسة أضعافه ماء ولا يتحمَّل قطرة نفط أبداً، تلقيه في المُهملات، لذلك قد يخطئ الإنسان أما حينما يستكبر فهو قد قطع ما بينه وبين الله، حينما يستكبر سار في طريقٍ مسدود.
العبد عبدٌ والرب رب، ليس من شأن العبد أن يستكبر، ليس من شأن العبد أن يُعَظَّم، فمن رأى نفسه عظيماً واستكبر أن يطيع الله عزَّ وجل فقد وقع في ضلال كبير، إنسان مثقَّف ثقافة عالية جداً، يحتل مركزاً علمياً مرموقاً، لا يصوم رمضان، هو أرقى من أن يصوم مثلاً، لا يصلي هذا منعه الكبر أن يصلي، كنَّا مرَّة في تشييع جنازة، وطبيب من ألمع أطبَّاء دمشق، وهو شخص يحتل منصباً رفيعاً في الجامعة لم يدخل ليصلي، هو أكبر من أن يصلي لله عزَّ وجل ؟! هكذا يرى نفسه !!!
﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ﴾
( سورة الإنسان )
هل يذكر يوم كان طفلاً صغيراً في بطن أمِّه، يوم خرج لا يفقه شيئاً:
﴿ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً ﴾
(سورة النحل: الآية " 87 " )
بعد أن ارتقى، وحمل شهادة عالية أهو أكبر من أن يصلي في مسجد ؟!
الانسان في اختياره للهداية مخير
الله أمر عباده تخييراً كل إنسانٍ خلقه الله عنده استعدادٌ كامل أن يهتدي إلى الله وأن يسعد في الدنيا والآخرة:
آية اليوم:
﴿ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ (88) ﴾
حينما تعتقد أو تتوهَّم أن الله خلق إنساناً وجعله لا يهتدي فهذا خطأٌ شنيعٌ في العقيدة، كل إنسانٍ خلقه الله، خلقه وعنده استعدادٌ كامل أن يهتدي إلى الله وأن يعرفه، وأن يسعد في الدنيا والآخرة، أما أن الله قد خلق الإنسان كافراً فهذا مستحيل، إذا خلق الله عزَّ وجل الإنسان كافراً فلمَ يعذِّبه ؟ ما ذنبه ؟
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له: إياك إِياك أن تبتل بالماء
***
إذا قدَّر عليه المعصية فلمَ يعذِّبه ؟ إذا خلقه مؤمناً فلمَ يدخله الجنَّة ؟
نحن في أنظمة حياتنا الدنيا هل من الممكن أن نعطي طالباً الأسئلة، قبل يومين، أو نعطيه أوراق الإجابة مكتوباً عليها الجواب الكامل بخط الأستاذ، ونقول له: اكتب اسمك ورقمك، فأخذ الدرجة الأولى على كل طلاَّب البلد، ثم أقمنا له حفلاً تكريميَّاً عظيماً لأنه نال الدرجة الأولى على كل الطُلاَّب، ليس لهذه الحفلة معنى إطلاقاً، هو لم يدرس إطلاقاً، قدَّم الأوراق مكتوبةً بخط الأستاذ، فنال الدرجة الأولى، فأُقيم له حفلٌ تكريمي، هذا الحفل لا معنى له إطلاقاً، شيء مضحك.
طالب آخر مُنِع من أداء الامتحان فوبَّخناه أشدَّ التوبيخ، هذا التوبيخ لا معنى له، إنسان من بني البشر يترفَّع أن يفعل ذلك، مدير مدرسة جمع الطلاَّب في أول يوم من أيام العام الدراسي، وقرأ عليهم أسماء الناجحين في آخر العام سلفاً، وأسماء الراسبين، وقال: انطلقوا وادرسوا، فلن يدرس أحد، ولم يعد للدراسة معنىً عندئذٍ.
حينما تؤمن أن الله خلق فيك الهدى من دون سببٍ منك، فأنت إذاً لا تعرف الله أبداً، أنت وصفت الله عزَّ وجل بما لا يليق به .
خلل كبير أن تعتقد أن الله أجبرك على الطاعة أو على المعصية:
إذاً:
﴿ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ (88) ﴾
غُلف، نحن لم نهتد، هذا ما يقوله معظم المسلمين: الله سبحانه لم يكتب لي الهدى، فلماذا ؟
يقول لك: سبحان الله، الله خلقنا ليعذبنا، وأيضاً يسبح الله عليها.
﴿ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ (88) ﴾
من قال لك كذلك ؟ لماذا شربت الخمر ؟
قال: والله يا أمير المؤمنين إن الله قدَّر عليَّ ذلك، ليس بيدي ـ طاسات معدودة بأماكن محدودة، ترتيب سيدنا ـ هكذا يقول لك.
فقال سيدنا عمر: " أقيموا عليه الحد مرتين، قال له: مرةً لأنك شربت الخمر، ومرةً لأنك افتريت على الله، ويحك إن قضاء الله لم يخرجك من الاختيار إلى الاضطرار ".
الله لم يجبرك، لو أن الله أجبر عباده على الطاعة لبطل الثواب، ولو أجبرهم على المعصية لبطل العقاب، ولو تركهم هملاً لكان عجزاً في القُدرة، إن الله أمر عباده تخييراً، ونهاهم تحذيراً، وكلف يسيراً، ولم يكلف عسيراً، وأعطى على القليل كثيراً، ولم يعصَ مغلوباً ولم يطع مكرهاً.
الخلل الكبير لمجرد أن تعتقد أن الله أجبرك على الطاعة أو على المعصية، عفواً لا يقول الناس إن الله أجبرنا على الطاعة، بل يقول أحدهم: أنا أطعت الله، أما متى يعتقدون بالجبر ؟
حينما يعصون الله عزَّ وجل، فيقول: الله ما أراد لي الهدى، كلام شيطان، كلام يتناقض مع القرآن.
آيات من القرآن الكريم تبين أن الله أمر عباده تخييراً ونهاهم تحذيراً:
قال تعالى:
﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3) ﴾
(سورة الإنسان)
وقال:
﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ (148) ﴾
( سورة البقرة )
وقال:
﴿ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) ﴾
( سورة الأنعام )
الخَرَصُ أشد أنواع الكذب، هذا الذي يقول: إن الله لم يشأ لي الهداية، يكذب على الله:
﴿ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ ﴾
( سورة النساء: الآية " 27 " )
وقال:
﴿ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى ﴾
( سورة الليل )
وقال:
﴿ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ﴾
( سورة النحل: الآية " 9 " )
أي على الله بيان سبيل القَصد. لو أراد الله تعالى أن يجبرنا على شيءٍ لأجبرنا على الهدى
خلقنا الله عزَّ وجل مخيَّرين، لو أراد أن يجبرنا على شيءٍ ما لما أجبرنا إلا على الهدى، ولو شئنا أن نجبركم، وأن نلغي اختياركم لآتينا كل نفسٍ هداها، فعندما تريد الجامعة أن تنجِّح كل الطلاب فالقضية سهلة جداً، تعطيهم أوراقاً مطبوعاً عليها الجواب الكامل، فقط اكتب اسمك ورقمك، فالنتيجة: نجح كل الطلاب، الكل امتياز، هذا النجاح ليس له قيمة إطلاقاً، لا عند رئاسة الجامعة ولا عند الناس ولا عند الطلاب أنفسهم، هذا نجاح مضحك.
﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ (13) ﴾
( سورة السجدة)
أنت مخيَّر، ولأنك مخير لك أن تفعل أو ألا تفعل، لك أن تصلي أو ألا تصلي، لك أن تكون صادقاً أو كاذباً، لك أن تؤمن أو تكفر، لك أن تستقيم أو تفسق، لك أن تُنفق أو أن تظلم، افعل ما تشاء، كل شيء بثمنه، العظمة في الجامعة لا أن ينجح كل الطلاَّب، لا أبداً، العظمة في الجامعة أن تأتي النتائج وفق المُقدمات، أن ينجح المتفوق وأن يحتل منصباً رفيعاً في الجامعة، وأن يطرد الكسول من الجامعة، روعة الجامعة تناسب النتائج مع المقدمات فقط، فالله عز وجل خلق الخلق ودعاهم إليه، وأمرهم أن يؤمنوا به، ورغَّبهم في الإيمان، وحذرهم من الكفر، وكرَّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان، هم مخيَّرون.
﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا (46) ﴾
( سورة فصلت)
الذين لا يهديهم الله وحق عليهم الضلالة
إذا عزي الإضلال إلى الله عزَّ وجل فهو الإضلال الجزائي المبني على ضلالٍ اختياري:
الإنسان حينما يعزو ضلاله إلى الله عزَّ وجل فقد ضل سواء السبيل، فإذا وجدت في القرآن آيةً يُستَدلُ منها أن الله أضل الإنسان فهذا هو الإضلال الجزائي المبني على ضلالٍ اختياري، لا بد من توضيح المثل:
طالب في الجامعة لم يداوم إطلاقاً، ولم يؤدِّ امتحاناً، ولم يلتقِ بالأستاذ، والجامعة قدَّمت له عشرات الكتب التي تدعوه فيها إلى أن يعود إلى الجامعة، لم يداوم، ولم يؤدِّ امتحاناً، ولم يشترِ كتاباً، ولم يستجب للإنذارات، فَرُقِّن قَيده، وبعد أن رُقِّنَ قيده قال: إن هذه الجامعة أرادت لي ألا أدرس، ترقين قيدك في الجامعة تجسيدٌ لرغبتك تنفيذٌ لإرادتك، هذا هو المعنى فقط.
لذلك إذا عزي الإضلال إلى الله عزَّ وجل فهو الإضلال الجزائي المبني على ضلالٍ اختياري .
(وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ ۚ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَّا يُؤْمِنُونَ (88)سورة البقرة )
﴿ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ (88)سورة البقرة ﴾
أي نحن لا نهتدي، فرد عليهم: لا، ولكن قال تعالى:
﴿ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ (88) ﴾
هناك ثلاث آيات مهمات جداً، أساس هذه الآية:
﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ(67) ﴾
( سورة المائدة)
وقال:
﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(51) ﴾
( سورة المائدة)
وقال:
﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ(6) ﴾
( سورة المنافقون)
من تلبَّسَ بالفسق لا يهديه الله عزَّ وجل، لأن فسقه حجابٌ بينه وبين الله، ومن تلبَّس بالظلم فالله عزَّ وجل لا يهديه لأن ظلمه حجابٌ بينه وبين الله، ومن تلبَّس بالكفر فالله عزَّ وجل لا يهديه لأن كفره حجابٌ بينه وبين الله. الإنسان مخيَّر ولو ألغي اختياره ما عاد إنساناً، فالله عزَّ وجل يقول الهدى موجود، ولكن شاءت حكمة الله عزَّ وجل أن يقول لك: الهدى بيدي، لكن لا أمنحه لا لظالمٍ ولا لفاسقٍ ولا لكافر.
يهدي من يشاء، يشاء من ؟
من لم يكن ظالماً يهديه الله عزَّ وجل، من لم يكن كافراً يهديه الله عز وجل، من لم يكن ظالماً يهديه الله عزَّ وجل.
﴿ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ (88) ﴾
يقول بعضهم: نحن لسنا مُهيَّئين للهدى، ما خلقنا الله مهتدين، هذا كلام الشيطان الرجيم، كلام الجهل، كلام الحُمق، كلام الغباء.
﴿ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ (88) ﴾
كفرهم سبب لعنهم، واللعن هو الإبعاد:
﴿ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ (88) ﴾
على الإنسان أن يكون معه حجة لله عز وجل يوم القيامة عن كل عمل يقوم به في الدنيا:
تجري الآن مناقشة دقيقة جداً، خالق الكون الذي منحنا المنطق يقول لهؤلاء: أنتم تدَّعون أنه إذا جاء نبيٌ سوف تسبقون الناس إلى الإيمان به،
فقد جاءكم هذا النبي وجاء بكتابٍ مصدقٍ لما في كتابكم التوراة، لمَ كفرتم به ؟
مصالح.
لذلك الإنسان إما أن يستجيب للحق، وإما أن يستجيب للهوى، حقٌ أو هوى، خيرٌ أو شر، آخرةٌ أو دنيا، إحسانٌ أو إساءة، إن لم تكن على أحد الخَطّين فأنت على الثاني حتماً، إن لم تكن مع أهل الآخرة فأنت من أهل الدنيا، إن لم تكن مصدقاً بالحق فأنت قد قبلت الباطل، إن لم تكن مُنصفاً فأنت ظالم، إن لم تكن رحيماً فأنت قاسي.
﴿ فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) ﴾
إن الذي يلفت نظري هو كيف يتوازن المسلم المعاصر ؟ كيف يعلم أن هذا حرام، وهذا حرام، وهذا حرام، وهذا حرام، وكيف يقترف هذه الحُرُمات ؟ كيف ينام متوازناً ؟ كيف يغمض له جفن ؟
كيف يبيت والله ليس راضياً عنه ؟
يقول سيدنا عمر رضي الله عنه:" عجبت لثلاث، عجبت لمؤملٍ والموت يطلبه، وعجبت لغافلٍ وليس بمغفول عنه، وعجبت لضاحك ملء فيه ولا يدري أساخطٌ عنه الله أو راضٍ ؟!! ".
طبعاً هذا درسٌ لنا ، فهل معك حجة لله عزَّ وجل ؟ أحياناً يسألني أخ: ماذا أفعل ؟ دائماً جوابي إليه: هل معك حجة لله عزَّ وجل يوم القيامة ؟ أي أنك إذا منحت ابناً بيتاً استثناءً من دون إخوته، أمعك حجة ؟
يقول: هذا ابني عاجز، هذا كلام مقنع، هذه حجةٌ لك يوم القيامة، حينما تخص ابناً عاجزاً مشلولاً، عنده عاهة، ببيت يؤجره ليأكل من أجرته استثناءً، وفي حياتك، وهبةً، معك إلى الله حجة، أما لأنه ابن زوجتك الجديدة وقد ضغطت عليك، أما ابن القديمة لا تعبأ به، سوف تحاسب يوم القيامة حساباً شديداً .
يقول لي موظف: أأكتب هذا الضبط ؟ أقول له: هل معك جواب إلى الله يوم القيامة ؟ دعك من رؤسائك، أمعك جواب إلى الله ؟
إن كنت ظالماً لهذا الإنسان سوق يقتص الله منك، واتقوا دعوة المظلوم ولو كان كافراً، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب. على المؤمن أن يهيِّئ لله جواباً عن كل شيءٍ يفعله:
هناك سؤال : فأنت في كل عمل، كل حركة، كل سكنة، كل نظرة، كل ابتسامة، كل عبوس، كل عطاء، لو قَبَّلت طفلاً وتركت الطفل الثاني، لو خصصت ابناً ولم تَخُصَّ الثاني، لو مِلت مع زوجةٍ وأغدقت عليها كلها شيء وأهملت الثانية، أخشن طعام للثانية، أسوأ بيت للثانية، أقسى معاملة للثانية، هل هيأت لله جواباً ؟ أمعك جوابٌ إلى الله عزَّ وجل ؟
هذا أهم شيء بالدرس، هيِّئ لله جواباً عن كل شيءٍ تفعله ؛ عن كل حركةٍ وسكنةٍ، ونظرة وابتسامةٍ، وإنفاقٍ وإقتارٍ، ومنعٍ وعطاءٍ، ووصلٍ وقطع، وودٍ وجفاءٍ، يجب أن تهيِّئ لله جواباً، قال لي أخ يعمل في التموين: هل يسمح لي أن أكتب ضبطاً ؟ قلت له: أكتب ما شئت، وأرسل إلى السجن ما شئت ومن شئت، لكنك إذا كنت بطلاً يجب أن تهيِّئ لله جواباً عن كل ضبط، لماذا كتبت هذا الضبط ؟ أكنت ظالماً له ؟ الله سيقتص منك.
أنا الذي أراه أيها الأخوة، أن كل ذكائك، وكل عبقريتك، وكل تفوِّقك في أن تكون أديباً مع الله، وقّافاً عند كلامه، مؤدياً لحقوق العباد، ومطبقاً لمنهجه العظيم، فالله عزَّ وجل يقول:
﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) سورة البقرة﴾
فأنا أقول: يمكن أن يقبلك الله إذا كان معك عذر، أما الشيء واضح، الحلال بيِّن، الحرام بيِّن، وتجد معظم الناس يأخذون ما ليس لهم ظلماً، وعتواً، واستكباراً، ومكابرةً، يركبون رؤوسهم، لكن الله عزَّ وجل كبير، وسوف ينتقم منهم.