الطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق :
الآن:
﴿ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا (128)﴾
الله عزَّ وجل جعل إليه ألف سبيلٍ وسبيل من رحمته بنا، فقد تجد إنساناً قوياً جداً بيده مقاليد الأمور ولكن لا سبيل إليه، ولا تستطيع أن تتصل به، ولا أن تقابله، ولا أن تعرض له، ولا أن تسأله، لكن الله عزَّ وجل جعل إليه ألف سبيلٍ وسبيل ؛ فالصلاة سبيل، والصيام سبيل، وغض البصر سبيل، وأنت في البيت لك إليه عشرات السُبل، فالزواج الصالح سبيل إلى الله، والأبوَّة الكاملة سبيل إلى الله، والأمومة الكاملة كذلك سبيل إلى الله، والبنوَّة الطيبة أيضاً، وهناك ضمن الأسرة آلاف الطُرق إلى الله عزَّ وجل، وهناك ضمن العمل آلاف الطرق، فأن تنصح المسلمين، وأن تكون صادقاً معهم، وأن ترحمهم، وأن تقدِّم لهم خدمةً سبل إلى الله، والآن أن تكف شهواتك عما لا يرضي الله سبيل إلى الله .
فهذه سبل الطاعة العامَّة، وهناك مناسك مكثَّفة ؛ فالصلاة، والزكاة، والحج، كلها مناسك، تذهب إلى بيت الله الحرام، وتطوف حول البيت، وتسعى بين الصفا والمروة، وتذهب إلى جبل عرفات فتشعر بسعادة لا توصف، فهذا سبيل إلى الله .
الله عزَّ وجل جعل لك مناسك، فقال لك: صَلِّ خمس مرات، أيْ أن عندك خمس شحنات في اليوم، وصلِّ يوم الجمعة في المسجد واستمع إلى الخطبة، فهذه شحنة أسبوعيَّة ووجبة دسمة، تعالَ في العام صم ثلاثين يوماً فهي دورة مكثَّفة، وفي العمر حجَّ إلى بيت الله الحرام، فهذه المناسك طرق إلى الله سالكة، جعل الله عزَّ وجل الطرائق إليه بعدد أنفاس الخلائق
قال بعضهم:
" الطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق " .
إذا أنقذ الإنسان نملة وهو يتوضَّأ فهذا سبيل إلى الله، وإذا أطعم هرَّة جائعة فهذا سبيل إلى الله، وإذا وضع على السطح طعاماً للطيور فهو سبيل إلى الله، وإذا نصح مسلماً فأيضاً سبيل إلى الله، وإذا كفَّ أذاه عن إنسان فإنه سبيل إلى الله، ففي كل لحظة هناك آلاف السبل إلى الله عزَّ وجل، وإذا رحم زوجته أو أمه وأباه وإذا أخلص في عمله وإذا نصح المسلمين فكلها سبيل إلى الله . المناسك بمعناها العام هو أي عمل يرضي الله، بمعناها الخاص الضيق العبادات المكثَّفة التي أُمرنا بها، والمنسك هو الطريق، أيْ يا رب أرني الطريق إليك، فهناك طريق قد يكون إلى جهنَّم ؛ أو إلى النار، وإلى الدمار والعقاب، ونحن في الحياة المدنية إذا هرَّب الإنسان مُخَدِّرات فهذا طريق إلى السجن ثلاثين سنة، وإذا قتل فطريق إلى الإعدام، وإذا نال شهادة عُليا ونفع بها أمته تحتفل به أحياناً، فصار طريقاً للسمو بالحياة المدنية، والله عزَّ وجل قال:﴿ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا (128)﴾
يا رب دلَّنا على الطريق الذي نصل به إليك، وبعضهم يقول: يا رب دلني على ما يدلني إليك، والآية الكريمة:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ (35) ﴾( سورة المائدة)
هذه مُطلقة، فالعمل الصالح وسيلة، والاستقامة وسيلة، وأن تلتقي بأهل الحق وسيلة، وأن تؤاخي أخاً صالحاً في الله يعينك على أمر دينك وسيلة .
" لا تصاحب من لا ينهض بك إلى الله حاله، ولا يدلُّك على الله مقاله "،
يجب أن يكون لك أخ مؤمن تثق بعلمه، وورعه، واستقامته وذلك وسيلة:
﴿ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا (128)﴾
الدين استسلام لله وخضوع له
﴿ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) سورة البقرة﴾
الدين في أصله وفي جوهره استسلامٌ لله عزَّ وجل وخضوع، ولكن هذا الخضوع لمن ؟ للخالق، الخضوع للقوي، الخضوع للعليم، للرحيم، للعدل، للخبير، للطيف، وهذا الذي يخضع لغير الله إنسانٌ أحمق، لأنه يخضع لضعيف، وخسيس، ولئيم، وعاجز، وجاهل، وأصل الدين أن تخضع لله، بل إن العبادة في أصلها غاية الإذعان مع غاية الحب، ولا يليق بالإنسان أن يخضع لغير الله
الإسلام أن تستسلم للمطلق:
﴿ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ (131)﴾( سورة البقرة)
دقِّق، أحياناً تأخذ فكرةً عن طبيبٍ متفوِّقٍ جداً ؛ عالمٍ، ورعٍ، مسلمٍ، مخلصٍ، يعطيك تعليمات، راقب نفسك، فقلَّما تحاول أن تفكَّر في حكمة هذه التعليمات لأنك مؤمنٌ أنه متفوِّق في علمه، وفي ورعه، وفي اختصاصه، وفي نصحه، فأنت مع إنسان تستسلم، فكيف مع الواحد الديَّان ؟ فإذا استسلمت إلى خالقك وطبَّقت منهجه فهو الصانع الحكيم، وتعليماته هي تعليمات الصانع، والجهة الصانعة هي الجهة الوحيدة التي ينبغي أن تتبع تعليماتها . أما أن يستسلم الإنسان لإنسان، أيْ لمخلوق ضعيف، إذ يستسلم لما يبدو له أنه قوي وهو في الحقيقة ضعيف !!
يقال: إن أحد الوزراء سأل أمير المؤمنين وقد طلب كأس ماءٍ منه، فقال: يا أمير المؤمنين بكم تشتري هذا الكأس لو مُنِع منك ؟ قال: " بنصف ملكي " ، قال: ولو منع إخراجه ؟ قال: " بنصف ملكي الآخر ".الإنسان ضعيف إذ كل ملك هذا الخليفة لا يساوي كأس ماءٍ يشربه ويخرجه
الكون وحده يعتبر دليلاً قاطعاً على عظمة الله عزَّ وجل:
قال تعالى:﴿ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) ﴾
دقِّق:﴿ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) ﴾
عالم ذهب إلى أمريكا، وأجرى حواراً مع عالم مسلم أمريكي حول لحم الخنزير، فالعالِم الذي من بلدنا أفاض، وشرح، وبيَّن الحكم، والعلل، والجراثيم، والدودة الشريطيَّة . فابتسم هذا المسلم الأمريكي وقال له: كان يكفيك أن تقول لي إن الله حرَّمه . لأن كل علم الله في هذا التحريم، ولأن كل رحمة الله في هذا التحريم، وحكمته وخبرته أيضاً، قال تعالى:﴿ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ﴾( سورة فاطر )
أنا لا أريد أن أُكثر من الأمثلة، ولكن لو كان لديك جهاز كمبيوتر وأصابه خلل، فأنت تذهب به إلى الخبير، فيقول لك: يجب أن تُغَيَّر هذه القطعة ـ فإذا كنت واثقاً طبعاً ـ تقول له: افعل ما تريد . فأنت مع الخبراء مستسلم، ومع الأقوياء مستسلم، ومع العلماء أيضاً، فالله يأمرك أن تكون مستسلماً له، فالعلم كلُّه، والحكمة كلها، والرحمة كلها، والقدرة كلها، واللطف كله، والخبرة كلها إن استسلمت لله استسلمت للمُطلق .
هذا هو الدين، إنّه خضوع ؛ إنك حينما تخضع لأمر إلهي، تخضع لأنه أمر الله عز وجل، قال علماء الأصول: " علَّة كل أمرٍ أنه أمر " . ويكفي أنه أمر وانتهى الأمر، وهذا يقودنا إلى قول سيدنا الصديق حينما أنبأه أهل قريش أن صاحبك يقول: إنه ذهب إلى بيت المقدس وعاد في ليلته . كلام غير مقبول، لا توجد مواصلات، ولا طائرات، ولا حوَّامات، ولا مركبات سريعة، ولا قطار سريع، ولا يوجد إلا الجمال، فشهر ذهاب وشهر إياب، أما أن يذهب إنسان ويصلي في بيت المقدس ويعود !! أرادوا أن يؤكِّدوا له أن صاحبك يقول كلاماً غير معقول: إن صاحبك يزعم أنه ذهب إلى بيت المقدس وعاد في ليلته !! فماذا كان جواب سيدنا الصديق ؟ قال: " إن قال هذا فقد صدق "، أرأيت الاستسلام !
قضية تربية الأولاد من أخطر قضايا المسلم
﴿ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)سورة البقرة ﴾
ذكر العلماء: أن من السُنَّة أن يكتب الإنسان وصيَّة يُصَدِّرها بنصح أولاده من بعده
أنا أُلِحُّ على أخواني الكرام أن يعتنوا بتربية أولادهم، لأن الابن استمرار لأبيه، ولأن شعور الأب حينما يرى ابنه طائعاً لله، عارفاً بالله، وقَّافاً عند حدود الله شعورٌ لا يوصف، ولا يعرفه إلا كل أبٍ حريصٍ على هداية أولاده
من النصوص القرآنيّة التي تأمر المؤمن أن يربي أولاده، من آيات القرآن الكريم قال تعالى:وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)(سورة طه)
أكبر معاناة يعانيها الأب الآن، أن أولاده ليسوا على ما يريد، ماذا يفعل ؟..
أرى أحياناً أنَّ الإنسان يعتصر الألم قلبه، ماذا يفعل ؟..
فقبل فوات الأوان يا إخوان، قبل فوات الأوان، إخواننا الشباب المتزوجون حديثاً هذا الكلام مفيد جداً لهم، مهما كان ابنك صغيراً يجب أن تربيه، ليكون أول صوت وصله كلمةُالتوحيد
( أدبوا أولادكم على ثلاث خصال، حبِّ نبيِّكم، وحبِّ آلِ بيته، وتلاوة القرآن ))
أمَّا إذا وُجِدَت أجهزة المُلهيات بالبيت.. يؤدَّب الابن على حبِّ الفنانين والفنَّانات الأحياء منهم والأموات، هكذا..لا تنس هذا المثل الشهير (خزان ماء)، الذي تضعه من فتحته العليا تأخذه من صنبوره الأسفل، ما نوع التغذية التي يُغذى بها أولادك ؟ نوع التغذية.. ما يقرؤون من مجلات ؟ ما يقرؤون من صحف ؟ مع من يجلسون ؟ مع من يسهرون ؟
ما الحديث الذي يدور فيما بينهم ؟ هذه تغذية. ماذا يشاهدون ؟ ماذا يقرؤون ؟ ماذا يستمعون ؟ أين يذهبون ؟ مَنْ أصدقاؤهم ؟
هذه تغذية.. فإذا كان لابنك أصدقاء يغذونه تغذية سيئة، تغذية أساسها المتعة المحرمة، أساسها رفقاء السوء، أساسها الاحتيال على الناس، أنّى له أن يكون قرَّة عينٍ لك ؟المسلم أحياناً ينظر يمنةً ويسرةً فقد يجد نفسه ضعيفاً، أو يجد نفسه مستضعفاً، لا يملك أن يمنع هذه القوى المخيفة التي تتحرك لتقضي على الإسلام، لكنه يملك أن يربي أولاده والإنسان إذا أراد ألا يموت، فعليه بتربية أولاده تربيةً إسلاميةً قد يقول أحدكم: هناك عقبات كثيرة جداً، وهذا صحيح، والنبيُّ عليه الصلاة والسلام يقول( يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ ))( سنن الترمذي عن أنس بن مالك )
كل عمل ابنك في صحيفتك:إنها كلمة قالها الأبناء، ولكن هذه الكلمة مُحَصِّلة توجيهات مديدة وطويلة ومتعدِّدة، فالأب الذي يكون وراء أولاده ومعهم دائماً ينصحهم ويعلِّمهم، هذا والله شهدته مرَّةً إذ هناك أولاد متميزون في تدَيُّنهم، وسبب هذا التميز في التديُّن أن آباءهم كانوا حريصين حرصاً لا حدود له على تربيتهم وعلى توجيههم، فالله عزَّ وجل يلحق عمل الأبناء بالآباء:
﴿وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾( سورة الطور الآية: 21 )
أي أن كل عمل ابنك في صحيفتك،
ولذلك ( إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثٍ: صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، وَعِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ، وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ . ))[الترمذي عن أبي هريرة]
الأعمال الصالحة أولاً منوَّعة، ولكن أجلَّ هذه الأعمال على الإطلاق هي التي تستمر بعد موت الإنسان . فإنسان ترك أثراً علمياً كبيراً جداً، وإنسان ترك علماً، وآخر ترك كتاباً، وثان ترك دعوة، وثالث ترك معهداً، فهذه الدعوات الجليلة التي تستمر بعد موت الإنسان هي من أَجَلّ الأعمال، إنها صدقةٌ جارية لا نهاية لها، فتصور أنه يمضى مئة سنة، وألف سنة، وألفا سنة، وآلاف مؤلَّفة، وكل من استفاد من هذا الكتاب في صحيفتك، وكل من استفاد من هذا العلم في صحيفتك .
(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)سورة البقرة﴾
هل من الممكن أن نوفِّر وقتنا ونتجه نحو المستقبل ؟
قال العلماء: " هناك من يعيش الماضي، وهناك من يعيش الحاضر، لكن نُخبة البشر هم الذين يعيشون المستقبل " .
أخطر حدث في المستقبل هو الوفاة، وأخطر حدث بعد الولادة هو الموت، فالإنسان أمامه حدث خطير هو مغادرة الدنيا، بحسب الظاهر من كل شيء إلى لا شيء، إلى قبر، من بيتٍ فاخر إلى قبرٍ مظلم، ليس معك في القبر إلا عملك إن كان كريماً أكرمك، وإن كان لئيماً أسلمك، فهذا الشيء المُجدي، أما الماضي فما لي وللماضي ؟
ما مضى فات والمؤمَّل غيب ولك الساعة التي أنت فيها
الأولى أن يفكِّر الإنسان في مستقبله، والأولى أن يعُد عمره عداً تنازلياً لا عداً تصاعدياً، اركب مركبة واذهب إلى حمص تصلها بمئة وخمسين كيلو متر، وبعدها بمئة وأربعين، مئة وثلاثين، مئة وعشرين، مئة وعشرة، مئة، تسعين، ثمانين، سبعين، ستين، خمسين، أربعين، ثلاثين، عشرين، عشرة، خمسة، حمص ترحِّب بكم، نازلين . فلو أحصينا عمرنا بهذه الطريقة اختلف الأمر .
البطولة لا أن تبحث في عمل الآخرين بل أن تبحث في عملك أنت :
الآن قضينا أربعين، فكم بقي يا ترى ؟
على المستوى المتوسِّط بالستين، فمعترك المنايا بين الستين والسبعين، فإنسان يموت وعمره خمس وخمسون، أو أربع وأربعون، أو تسع وثلاثون، أما الأغلبيَّة فبين الستين والسبعين، فإذا مضى من عمر أحدنا أربعون سنة، كم بقي له على المتوسط ؟ نصف ما مضى، وصل إلى الخمسين فبقي عشر، ووصل إلى الخامسة والخمسين بقي خمس، وبعد هذا ينتظر الصباح والمساء، فإذا نام لا يستيقظ، وإذا استيقظ لا ينام، يخرج من بيته كل يوم قائماً، ومرَّة واحدة أفقياً، وكلَّما خرج عاد إلا مرَّة واحدة يخرج ولا يعود، والموت مصير كل حيّ، فلذلك:
﴿ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ (134) ﴾
مضت ونحن سنمضي، وبعد مئة عام في الأعم الأغلب لن يكون واحد منا في هذا المجلس على قيد الحياة، بل كلنا تحت الأرض بلا استثناء، وهؤلاء الذين في القبور كانوا أشخاصاً، ولهم هموم، ولهم مشكلات، وعندهم أعمال، وعندهم إنجازات، وسكنوا في بيوت جميلة، وأكلوا طعاماً طيباً، وتزوَّجوا النساء أين هم الآن ؟ أحياناً تجد جمجمة مثلاً بمتحف، أو بمخبر علمي طبيعي، فمن صاحب هذه الجمجمة ؟ ماذا كان يعمل ؟ لا نعرف، يوجد في أمريكا حفرة مثل الجب فيها كتلة تساوي خمسة طن كلها جماجم، وكان هناك اعتقاد واهم أن فيها كنوزاً فمئات وآلاف الأشخاص ألقوا بأنفسهم ليخرجوا الكنز، فماتوا ولم يجدوه وجماجمهم تشهد عليهم، وهذا هو الإنسان .
﴿ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134) ﴾
هذه المقابر حول دمشق، هذا مات بالثمانين، وبالتسعين، وبالسادسة والثمانين، وبالخامسة والثمانين، وبالخامسة والتسعين، هذا عميد أسرته، وهذا الشاب، وهذا الطبيب، وهذا المهندس، فهذه المقبرة فيها كل الناس، وكل إنسان له عمله، فالبطولة لا أن تبحث في عمل الآخرين ـ دقِّق في هذا الكلام ـ البطولة أن تبحث في عملك أنت، لأن عملك أنت هو الذي تُسأل عنه بالضبط .
