مفتاح العلم السؤال
(يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)سورة البقرة
السؤال دليل الصدق :
إنك بمجرَّد أن تهتم بشيء تسأل عن دقائقه، وتفاصيله، ومَداخله، ومخارجه، وأخطاره، وأبعاده، وملابساته، ولذلك فعلامة صدق أصحاب رسول الله أنهم سألوا النبي عليه الصلاة والسلام .
﴿ يَسْأَلُونَكَ ﴾
فالسؤال دليل الصدق، وحينما لا يسأل الإنسان هناك احتمال جيِّد لصالحه، قد يكون الأمر واضحاً جداً له فلا يسأل، وقد يلقي أستاذٌ درساً، ويسأل الطلاب: هل هناك من سؤال؟ فإذا كان الدرس واضحاً جداً، والطلاب استوعبوا دقائقه فلا أحد يسأل، فهذه حالة، أما الطالب البعيد عن موضوع الدرس، والشارد، الذي يعيش بجسمه في قاعة الدرس، وقلبه خارج الدرس، فهذا إذا قيل له: أتسأل؟ يقول: لا يوجد سؤال، لا يسأل، فالذي لا يسأل إما لوضوحٍ شديدٍ عنده، أو لعدم اهتمامٍ بأصل الموضوع.
فعلى كلٍ العلم مِفتاحُه السؤال، ولئن تسأل فتكون في نظر الآخرين جاهلاً أفضل ألف مرة من أن تخطئ ولا تسأل، وليس العارُ أن تكون جاهلاً، ولكن العار أن تبقى جاهلاً، وليس العار أن تخطئ، ولكن العار أن تبقى مُخطئاً، والمؤمن الصادق يسأل، ولا يعبأ كثيراً بمكانته، لأن هناك رجلين لا يسألان؛ المُستحيي والمُتَكَبِّر، والحياء في العلم جهل، والكبر في العلم جهل.
لكن بقي موضوع دقيق في موضوع السؤال، هذا الإنسان الذي يُسأل، إذا علَّق تعليقاً قاسياً على سائلٍ منع السؤال، فينبغي له أن يتقبَّل السؤال بصدرٍ رحبٍ واسعٍ، وأن يحترم السائل، وأن يُثني عليه، حتى يشجِّع غيره أن يسأل.
أحياناً يسأل الابن أباه سؤالاً، قد يكون سخيفاً، فيصب الأب جام غضبه على ابنه، ولم يدر الأب أنه أجرم في حق ابنه، لن يسأله بعد ذلك سؤالاً، لا، مهما بدا لك السؤال سخيفاً تافهاً يجب أن تحتفل بالسائل، وأن تثني عليه، وأن تقول له: بارك الله بك، هذا دليل اهتمامك، وهذه النقطة التي أثرتها جوابها: كذا وكذا وكذا، فموقف المسؤول سوف يُسأل عند الله يوم القيامة، مفتاح العلم السؤال، كم من إنسان كره مادةً في التعليم من أستاذٍ قاسٍ في ملاحظته! فاسأل ما بدا لك، ورد في الأثر أن: تواضعوا لمن تعلِّمون، وتواضعوا لمن تعلَّمون منه.
يجب أن تتواضع لمن تُعَلِّم، طبعاً هناك قصص تُروى، وهي للتَنَدُّر ولا يؤخذ منها حكمٌ شرعي؛ تروي الكُتب مثلاً أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى كان يعاني من ألمٍ في مفاصله، وكان يلقي درساً أمام تلامذته المقرَّبين، وكان ماداً رجله، فدخل رجلٌ قويم الهيئة، طويل الجثّة، عريض المَنكبين، يرتدي عمامةً، يبدو أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى استحيا منه فرفع رجله، فجلس في مجلسه، وبعد أن انتهى المجلس سأل ـ الموضوع كان حول صلاة الصبح ـ قال له: يا إمام كيف نصلي الصبح إذا طلعت الشمس قبل الفجر؟ قال له: عندئذٍ يمدُّ أبو حنيفة رجله.
طبعاً هذه قصة للتنَدُّر، أما أن يؤخذ منها حكمٌ شرعي! الحكم الشرعي نأخذه من موقف رسول الله عليه الصلاة والسلام، الحكم الشرعي نأخذه من الكِتاب والسُنَّة، هذا هو الحق، فالنبي مشرِّعٌ في أقواله، وأفعاله، وإقراره، كان يُسأل بغلظة ـ أعطني من هذا المال يا محمد، فهو ليس مالَك ولا مال أبيك ـ وكان بإمكان النبي أن يلغي وجود هذا السائل الفظ، ولكنه قال: "صدق إنه مال الله.
المؤمن متواضع لمن يسأله، مهما بدا لك السؤال سخيفاً، تواضع لمن تتعلَّم منه، وتواضع لمن تعلِّم، فهذا التعليق على كلمة:
﴿ يَسْأَلُونَكَ ﴾
أنت حينما تسأل تستعير خبرة المسؤول، وقد تزيد عن خمسين سنة، خبرات متراكمة خلال عمر طويل، تأخذها مجَّاناً بسؤال مؤدَّب، اسأل ما بدا لك..
(يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)سورة البقرة
معنى الإنفاق :
الحقيقة للإنفاق معنىً موسَّع جداً؛ أن تنفق مما رزقك الله، لا يوجد إنسان على وجه الأرض لا يوجد عنده شيء، إنسان عنده عِلْم، وإنسان عنده خِبْرَة، وثالث عنده قُدْرَة، ورابع عنده مهارة، وخامس عنده مال، وسادس عنده مكانة وجاه، وسابع عنده قدرة على الإقناع، فماذا تنفق؟
أنفق مبدئياً مما رزقك الله:
﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾[ سورة البقرة: 3]
﴿الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾[ سورة البقرة: 3]
أيْ إنَّ شطر الدين الأكبر وهو الإنفاق شطره أن تعرف الله، وأن تستقيم على أمره، وأن تُنْفِق، فإنسان لا ينفق هذا إنسان لا يؤكِّد صِدْقَهُ، لماذا سمَّى الله الصدقة صدقةً؟
لأنها تؤكد صدق المؤمن، فهناك أشياء لا تكلِّفك شيئاً، فأن تأتي إلى بيت من بيوت الله شيء لطيف، فالإنسان قد يستمع إلى درس، وقد يلتقي مع أخوانه، وأن تتوضأ، وتصلي في الصيف، الصلاة نشاط، وأن تذهب إلى العمرة شيء لطيف، وسفر مريح، وتسكن في فندق، تأكل وتشرب، وتطلع، وتطوف حول البيت وتأتي، وعملنا عمرة، أما حينما تؤمر أن تنفق من مالك ـ المال محبَّب ـ وطبعك يقتضي أن تأخذه لا أن تنفقه، فحينما تنفق المال هذا يؤكِّد صدق المؤمن، فالحقيقة الصدق يظهر في الأعمال المُتْعِبَة، ولذلك سمىَّ الله عزَّ وجل التكليف تكليفاً لأنه ذو كُلْفَة.
إن أردت أن تنفق من مالك فيجب أن يكون هذا المال مالاً حلالاً:
إذاً الإنفاق مفروغٌ منه، لم يُسأل عنه النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن سُئل: ماذا ننفق؟
فجاء الجواب إجابةً للسؤال وزيادةً عليه، ما هي الزيادة؟
فقال الله عزَّ وجل:
﴿ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ ﴾
[ خير ] يجب أن تنفق خيراً، أي تنفق مالاً حلالاً، وأن تعطي علماً نافعاً، لا أن تُعَلِّم السحر، وأن تنفق من مالٍ حلال، وأن تطعم طعاماً طيِّباً تأكله أنت وتقبل عليه، لا أنك إذا كرهت الطعام أنفقته، فهذه كلمة [ خير] واسعة جداً، إن كانت بالجاه يجب أن تعين مظلوماً بجاهك، لا أن تعين ظالماً على أكل مال الناس بالباطل، تقول: إنني وضعت مركزي كله، لا، وضعت مركزك كله لنصرة الظالم لا المظلوم، [ خير ]، إن أردت أن تنفق من جاهك فيجب أن يكون هذا الإنفاق خيراً لنصرة المظلوم، وإن أردت أن تنفق من مالك فيجب أن يكون هذا المال مالاً حلالاً، جمَّعته مِن كَدِّ يمينك وعرق جبينك، إن أردت أن تنفق علماً فيجب أن تنفق علماً نافعاً ينتفع به المتعلم في الآخرة، لا أن تنفق علماً يفسد حياة المسلمين.
هناك مِهَنٌ كثيرة أساسها إفساد أخلاق المسلمين، وإفساد البيوت؛ أنا أعلِّمك تصليح هذه الأجهزة، أنت ما فعلت شيئاً، أنت ما أنفقت، هذا العلم الذي تعلَّمته والذي تعلِّمه للآخرين أساسه إفساد البيوت المُسلمة، الإنفاق يجب أن يكون إنفاقاً خيراً؛ إنْ في المال، أو في العلم، أو في الجاه، أو في أيّ شيء آخر. فهذه الزيادة، أجابهم الله عزَّ وجل عن سؤالهم، وزاد عن إجابتهم بشرطية أن يكون الإنفاق من خيرٍ..
﴿ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ ﴾
أقرب الناس إليك.
في آيات الإنفاق أربعة معان دقيقة هي :
1 ـ الإخلاص :
آيات الإنفاق اليوم التي وردت في أواخر البقرة فيها أربعة معان دقيقة ؛ المعنى الأول :
﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ﴾
الإخلاص :
﴿وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾
أحياناً الإنسان في علاقاته المادية ، إن كان موظفاً بدائرة ، يثبت مركزه عند رئيسه بنشاط زائد ، بدوام منضبط ، بإنجاز كثيف ، بهدية يقدمها له أحياناً ، بخدمة خاصة يقدمها ، بإظهار التفاني في العمل ، هدفه يثبت مركزه عند رئيسه ، في تثبيت مركز ، وتقوية مركز ، وبالتعبير العامي : تركيز وضع ، يقول لك : ركز حاله ، أي عمل عملاً تجاه رئيسه ، يجعل مكانته قوية عنده ؛ إما بعمل زائد ، بإخلاص ، بتفان ، بدوام منضبط ، بإنجاز كثيف ، إذاً أليس الأولى أن يثبت الإنسان مركزه عند الله ؟ والآية واضحة جداً :
﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾[سورة البقرة:265]
هذا المعنى الأول ، المعنى الأول أن الإنسان إذا أنفق بإخلاص يثبت مركزه عند الله ، يقوي مكانته ، والنبي الكريم يقول : " ابتغوا الرفعة عند الله " ، أي لا تبتغوها عند الناس ، الإنسان فان ، والإنسان قد لا ينتبه ، قد لا يكافىء ، أي الإنسان ليس أهلاً لذلك ، قد يكون ليس أهلاً لتمحضه كل إخلاصك ، قد يكون غافلاً عن أعمالك ، قد تكون إمكانيته لا تستوعب أعمالك ، قد ينسى ، قد يتشاغل عنك ، تُصاب بخيبة أمل ، لكن اجعل كل إخلاصك لله عز وجل ، هذا أول معنى .
2 ـ أي شيء تنفقه يعلمه الله :
المعنى الثاني :
﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ﴾[سورة البقرة:270]
إذا الإنسان قدم هدية ، طبعاً الشيء الأساسي أن يعلم المهدى إليه أنها من فلان ، يضعون بطاقة أحياناً ، يضعون شريطاً أحياناً ، باقة ورد ، تقدمة من فلان ، أي من لوازم الهدية أن يُعلم من تقدم إليه أنها من فلان .
فربنا عز وجل هذه حاجة عند الإنسان ، يا ربي أنا هذا العمل مني ، هذه الحاجة مضمونة :
﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ﴾[سورة البقرة:270]
3 ـ خير الإنفاق يعود على الإنسان يوم القيامة :
المعنى الثالث :
﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾[سورة البقرة:272]
هذا الإنفاق في ظاهره لله ، أما في حقيقته فلك ، سيعود خيره عليك ، إذا الإنسان أطعم لقمة في سبيل الله يراها يوم القيامة كجبل أحد ، لقمة إذا أطعمتها في سبيل الله ، فكيف بما فوق هذه اللقمة ؟
4 ـ الخير يعود على الإنسان في الدنيا قبل الآخرة :
الشيء الأخير ؛ المعنى الرابع :
﴿وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾
في الدنيا .
المعنى الأول : ثبت مركزك بالإنفاق ، المعنى الثاني : أي شيء تنفقه الله يعلمه ، المعنى الثالث : خير الإنفاق يعود عليك يوم القيامة ، والمعنى الرابع : وفي الدنيا وقبل الآخرة ،
كل شيء تنفقه يعوضه الله عليك بنص هذه الآية ، وسبع آيات أخر حصراً :
﴿وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾[سورة البقرة:272]
الشيء الخامس :
﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾[سورة البقرة:274]
معنى ذلك : ضمنت سلامة الماضي والمستقبل ؛ لا خوف عليهم فيما هم قادمون عليه ، ولا هم يحزنون على شيء تركوه ، هذه أكبر مكافأة .