10-02-2025, 06:56 AM
|
#54
|
مشرفة قسم القرآن
|
الاختلاف أنواع :
قال تعالى:
﴿ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴾ البقرة 253
هنا، أتباع هؤلاء الأنبياء ألم يقتتلوا؟ ألم يذبح بعضهم بعضاً؟ ألم يعتدي بعضهم على بعض؟
الشيء العجيب أن هؤلاء الأنبياء العظام هم كلُّهم من عند الله عز وجل، الأصل واحد، رُسُل الله، والله خالق السماوات والأرض، هل يعقل أن يقتتل أتباعهم؟ هذا هو الجهل، فقد كنت أقول سابقاً: هناك اختلاف طبيعي اختلاف نقص المعلومات، كان الناس أمة واحدة فاختلفوا، أما حينما جاء الحق وزهق الباطل، وجاء وحي السماء، وأُنزلت الكُتُب، وبعثت الرسل، الأمر واضح جداً، فلماذا يختلفون؟
قال: الاختلاف الأول اختلافٌ طبيعي، اختلاف نقص المعلومات، وعلاجه أن يأتي الحق صريحاً،
أما الاختلاف الثاني: اختلاف قذر، هو اختلاف الأهواء، والشهوات، والرئاسات:
﴿ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ﴾
[ سورة آل عمران: 19 ]
ألا ترى إلى المسلمين؛ إلههم واحد، ونبيهم واحد، وكتابهم واحد، وسنَّتهم واحدة، ألم يقتتلوا؟ أليس كلُّ فريقٍ يطعن بالفريق الآخر؟
الخلافات بين جماعات المسلمين خلافات عميقة جداً، وهم جميعاً يرجعون إلى إلهٍ واحدٍ، وكتاب واحد، ونبي واحد، إذاً هذا اختلاف الأهواء، الحق الواضح إذا كان معه اختلاف، اختلاف الأهواء، والحظوظ، اختلافٌ على الدنيا، ألم يقتتل هؤلاء الذين انتصروا في شرق آسيا على أعتى دولة في العالم؟ انتصروا عليها، فلما حققوا النصر اختلفوا على الدنيا، هم يقتتلون من عشرين عاماً، أليس اقتتالهم وصمة عارٍ بحق المسلمين؟
هؤلاء يقتتلون على الدنيا، كيف يكون في مكانةٍ عليةٍ عند الله وهم يقتتلون على الدنيا، ويسفكون دماءهم حراماً فيما بينهم؟ هناك اختلافٌ طبيعيٌّ، وهناك اختلافٌ قذرٌ، وهناك اختلاف تنافس، هذا الاختلاف ورد في القرآن الكريم، اختلاف التنافس:
﴿ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُون ﴾
[ سورة المطففين: 26 ]
و
﴿ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ ﴾
[ سورة الصافات: 61]
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ ﴾
هذه الآية شاملة شمولاً عجيباً، تشمل كل شيء، أوتيت خبرةً في شيء، أنفق خبرتك، أنفق علمك، أنفق جاهك، أنفق مالَك، أنفق وقتك، أنفق عضلاتك..
﴿ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ ﴾
لا أحد يشفع لك:
﴿ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنقِذُ مَنْ فِي النَّارِ﴾
[ سورة الزمر: 19]
﴿ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ*وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ* ﴾
[ سورة عبس: 34-36 ]
﴿ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ*كَلَّا﴾
[ سورة المعارج: 14-15 ]
من أنفق المال ابتغاء وجه الله يخلفه عليه أضعافاً كثيرة :
آيات الإنفاق كثيرة جداً، تزيد عن مئتي آية في القرآن الكريم، لأن الإنفاق طريق القرب من الله عز وجل
في الإنفاق أنك حريصٌ على المال، فإذا أنفقته ابتغاء وجه الله، فالله سيخلفه لك أضعافاً مضاعفة، يقول الله عز وجل:
﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾
[ سورة سبأ: 39]
(( ما نقص مال من صدقة ))
[مسلم عن أبي هريرة ]
(( أنفق بلال ولا تخشى من ذي العرش إقلالا ))
[السيوطي عن بلال وعن أبي هريرة وابن مسعود ]
عبدي أنفق أنفق عليك..
﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾
[ سورة سبأ: 39]
﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾
[ سورة الأنفال : 272]
العمل الصالح محصورٌ في الدنيا أما بعد الموت فقد بدأ الحساب الدقيق :
أيها الأخوة..
﴿ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ ﴾
حجمك عند الله بحجم عملك الصالح، ما الشيء الذي تقدمه أمامك ليوم اللقاء مع الله عزَّ وجل؟ ماذا قدمت؟ هل قدمت جهداً؟ هل قدمت علماً؟ هل قدمت خبرةً؟ هل قدمت مالاً؟ هل قدمت دعوةً؟ هل قدمت تربيةً؟ ماذا قدمت؟ إن لم تقدِّم شيئاً فهذا هو الخاسر الأكبر، مَن لم يقدم شيئاً هو الخاسر الأكبر..
﴿ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ ﴾
يوم القيامة ليس ثمة مال تنفقه، ولا مريض تعالجه، ولا فقير تطعمه، ولا جائع تطعمه، ولا فقير تعطيه من مالك، وليس هناك مجالٌ لعملٍ صالحٍ أبداً، العمل الصالح محصورٌ في الدنيا، في الدنيا وحدها هناك عملٌ صالح، أما بعد الموت فقد انتهت الأعمال الصالحة وبدأ الحساب الدقيق..
﴿ لَا بَيْعٌ فِيهِ ﴾
الإنسان في الدنيا يبيع بيتاً وينفق ماله في سبيل الله، وقد يبيع نفسه لله، أما بيع في الآخرة فليس هناك.
نحن في دار عمل وغداً دار الجزاء :
قال تعالى:
﴿ وَلَا خُلَّةٌ ﴾
أصحاب، علاقات، في الدنيا شبكة علاقات، يقول لك: فلان صاحبي، وفلان صاحبي، له دعائم، له مرتكزات، هذه العلاقات ليست موجودة في الآخرة:
﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾
[ سورة الأنعام: 94 ]
﴿ وَلَا شَفَاعَةٌ ﴾
لا أحد يشفع لك، بل إن شفاعة النبي عليه الصلاة والسلام محدودةٌ لمَن مات غير مشرك، مثل إذا قلنا مثلاً: بلد فيها عشرون مليوناً، هناك ميزة يأخذها أصحاب مَن يحمل دكتوراه، هؤلاء قلائل جداً، من مات غير مشرك، مات على التوحيد، هذا مقام عالٍ جداً لأن الله عزَّ وجل يقول:
﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ ﴾
[ سورة يوسف: 106]
إذا ضمنت لي أن تموت غير مشرك فأنت في أعلى درجة من الإيمان، فلو دخلت امتحان، عندك عشر مواد، نجحت في التسعة بامتياز وهناك مادة ينقصك فيها علامتان، النبي يشفع لك، أما كلها أصفار، امتحان ما قدم ولكنه يقول: اشفعوا لنا.
يا فاطمة بنت محمد، يا عباس عم رسول الله أنقذا نفسيكما من النار، أنا لا أغني عنكما من الله شيئاً، لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم، من يبطئ به عمله لم يسرع به نسبه.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾
نحن في دار عمل وغداً دار الجزاء، نحن في دار تكليف وغداً دار التشريف، نحن في دارٍ نفعل ما نشاء، ولكن هناك دارٌ بعد حين تحاسب عن كل شيءٍ فعلته، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ(254) ﴾
هذه الآية تدعونا إلى العمل الصالح، فهو سر وجودنا، وغاية وجودنا، وثمن جنة ربنا، وكل إنسان بإمكانه أن ينفق مما رزقه الله، والإنفاق واسع جداً.
لا يكون عملك مرضياً عند الله إلا إذا كان خالصاً وصواباً :
قد يقول أحد الأخوة: وأنا أصلي لا أشعر بشيء، أقرأ القرآن لا أشعر بشيء، هذا خلل في الإيمان خطير، العلاج:
﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً ﴾[ سورة الكهف: 110 ]
أنت حينما تعمل عملاً صالحاً تتألَّق وتقترب من الله عزَّ وجل، فطريق الاتصال بالله، طريق السعادة في الدنيا، طريق أن تذوق طعم القُرب، طريق جنَّة الدنيا العمل الصالح، أن تعمل عملاً صالحاً وفق الكتاب والسنة، وأن يكون هذا العمل خالصاً لوجه الله الكريم. سُئل الفضيل بن عياض عن قوله تعالى:
﴿ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ ﴾[ سورة النمل: 19 ]
متى يكون العمل مرضياً عند الله؟
فقال كلمتين اثنتين؛ قال: أن يكون صواباً وخالصاً، خالصاً ما ابتغي به وجه الله، وصواباً ما وافق السنة، فأي عملٍ وافق السنة، ولم يكن خالصاً فليس هذا العمل مرضياً عند الله، وأي عملٍ كان خالصاً لله ولم يوافق السنة فليس هذا العمل مرضياً عند الله، لا يكون عملك مرضياً عند الله إلا بحالتين، إذا كان هذا العمل خالصاً وصواباً، خالصاً ما ابتغي به وجه الله، وصواباً ما وافق السنة.
هذه الآية أتمنى على الله عزَّ وجل أن تقع منكم موقعاً عميقاً، هذه الآية وحدها تدعوكم إلى العمل الصالح، تدعوكم إلى بذل العلم، وبذل الجهد، وبذل المال، وبذل الخبرة، وبذل الوقت، الوقت الذي تستهلكه في العمل الصالح هو وقتٌ مستثمَر وليس وقتاً مستهلكاً، بل هو مستثمر، لأن الله عزَّ وجل يقول:
﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾[ سورة العصر: 1-3 ]
العمل الصالح سرّ وجودنا وغاية وجودنا :
قصة أرويها لكم كثيراً، فهي نموذجية، أن بدوياً في شمال جدة له أرض، فلما توسعت هذه المدينة اقتربت من أرضه، نزل ليبيعها، اشتراها منه مكتبٌ خبيث بثمنٍ بخس، بربع قيمتها، وأنشأ بناءً شامخاً يزيد عن عشرة طوابق، وهم شركاءٌ ثلاثة، أول شريك وقع من سطح هذا البناء فنزل ميتاً، فلقي جزاء عمله؛ عمله اغتصاب، واحتيال، وأكل مال الناس بالباطل، والثاني دهسته سيارة، فانتبه الثالث، وبحث عن صاحب هذه الأرض ستة أشهر، حتى عثر عليه، ونقده ثلاثة أضعاف ما دفعه له سابقاً، أي نقده الثمن الطبيعي للأرض، فقال له هذا الأعرابي: ( ترى أنت لحقت حالك ) تدارك خطأه، فهذا كلام دقيق، يجب أن نسعى، إذا فاتت الإنسان أياماً طويلة، سنوات طويلة لم يعمل بها عملاً صالحاً..
|
|
|
|