الصُّوفِيَّة طريقة روحية معروفة عند بعض الشعوب ذات الحضارات القديمة. وهي نزعة سلوكية وليست فرقة سياسية أو مذهبية، ومن الجائز عند الصوفية من المسلمين أن يكون الصوفي على أي مذهب من المذاهب؛ شيعيًا أو معتزليًا أو سنيًا.
تعريف التصوف
ويمكن أن تُطلق كلمة متصوفة على أي جماعة تلبس الصوف أو الخشن من الملبس أو تنضوي تحت لواء صف من الصفوف، أو تركن إلى صُفَّة المسجد أو غيره. والأصل أن المتصوفة هم العاكفون على العبادة والمنقطعون إلى الله والمعرضون عن زخرف الدنيا وزينتها، والزاهدون فيما يقبل عليه عامة الناس من لذة ومال وجاه، والمنفردون عن الخلق بالخلوة للعبادة. ويرى ابن خلدون أن للتصوف أربعة عناصر هي: أ- الكلام في المجاهدات وما يحصل من الأذواق والمواجيد ومحاسبة النفس على الأعمال. ب- الكلام في الكشف وفي الحقيقة المدركة من عالم الغيب. جـ - التصرفات في العوالم، والأكوان، وأنواع الكرامات. د - ألفاظ موهمة الظاهر، نطق بها أئمة القوم يعبرون عنها في اصطلاحهم بالشطحات تستشكل ظواهرها.
وأما أبو محمد رويم البغدادي، فقد عَرَّف التصوف بأنه مبني على خصال هي: التمسك بالنفر والافتقار، والتحقق بالبذل وترك الفرض والاختيار. وهو أيضًا عنده: استرسال النفس مع الله على ما يريده.
ويُعَرِّفُه الجُنيد، وهو أحد المتصوفة، قائلاً: ¸أن تكون مع الله بلا علاقة وبأن يميتك الحق عنك، ويحييك به·، كما يعرفه بأنه ذِكْر مع اجتماع ووجد مع استماع، وتحمُّل مع اتباع. أما الصوفي، فيعرف عند المتصوفة، بأنه مَنْ صفا من الكدر، وتسلى عنه بالفكر، وانقطع إلى الله عن البشر واستوى عنده الذهب والمدر (الطِّين). كما يُعرَّف الصُّوفي بأنه كالأرض يطرح عليها كل قبيح ولا يخرج منها إلا كل مليح.
نشأة التصوُّف. يرى بعض المؤرخين، كالمسعودي، أن الكثير من المسلمين الذين اشتهروا بالورع والتقوى لمّا لم يجدوا في علم الكلام ما يطمئن نفوسهم المولعة بحب الله تعالى قرروا أن يتقربوا إلى الله تعالى عن طريق الزهد والتقشف وفناء الذات في حبه تعالى، ثم سموا المتصوفة.
ويقول القشيري: ¸لما ظهرت البدع، وتشاحنت الفرق، وصار أصحاب كل بدعة يدعون أن فيهم زهادًا، انفرد خواص المسلمين الحافظين قلوبهم عن طوارق الغفلة باسم الصوفية·. وأطلق هذا الاسم عليهم قبل نهاية القرن الثاني الهجري بقليل.
هذا ويرى بعض الباحثين أن أول من تسمى باسم الصوفي هو أبو هاشم الذي وُلد في الكوفة وأمضى سواد حياته في الشام وتوفي عام 160هـ. وأن أول من حدّد نظريات التصوف وشرحها هو ذو النون المصري تلميذ الإمام مالك. وأن الذي شرح هذه النظريات وبوّبها هو جُنيد البغدادي. والذي دعا لها من فوق المنابر هو الشِّبْلي.
ومع تطور السلوك الصوفي، أصبح للمتصوفة فلسفة استمدت أصولها من الفلسفة الأفلاطونية المحدثة وبعض المذاهب الفارسية والهندية. و حملت الصوفية في بعض جوانبها تناقضات مع منهج العبادة في الإسلام، إذ أن الإسلام لم يحرِّم طيبات الدنيا بل أباحها بشرط عدم الإسراف فيها، ولم يأمر بلبس الصوف بل أباح اللباس الطيب ﴿وأما بنعمة ربك فحدث﴾ لضحى: 11 ا. وقد فسرت السنة هذه الآية بقوله صلى الله عليه وسلم: إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده (ولم يأمر الإسلام بالفناء وقتل الإحساس بالحياة بل أباح الحياة والقوة كما يقول القرآن) ﴿وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين﴾ القصص: 77 . ورد في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه: ( المؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف) . والمتكلمون وأهل التصوف متفقون تمام الاتفاق على أنه لا فاعل حقيقة إلا الله تعالى.
ومما تجدر الإشارة إليه أن البعض اتخذ من التصوف وسيلة لتحقيق مآربه الشخصية. وفي ذلك يقول ابن السمّاك وهو أحد كبار الصوفية:
¸والله لئن كان لباسكم وفقًا لسرائركم لأحببتم أن يطلع الناس عليها، ولئن كان مخالفًا لها لهلكتم·.
منابع الصوفية. يمكن القول أن مسار التصوف في الإسلام انطلق من منبعين أثّرا في تطوره وتعدد مدارسه التي ظهرت على أيدي بعض فلاسفة التصوف، كالقول بالإشراق، ووحدة الوجود، والشهود، وهذان المنبعان هما:
1 - انصراف بعض العباد المسلمين إلى الزهد في الدنيا، والانقطاع للعبادة. وبدأ ذلك في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، فكان من الناس من اعتزم أن يقوم الليل مصليًا متهجدًا ولا ينام، ومنهم من يصوم ولا يفطر، ومنهم من انقطع عن النساء، فكان الواحد منهم يأبى على نفسه أي نعيم، ويتمسك بقوله تعالى ﴿قل متاع الدنيا قليل، والآخرة خير لمن اتقى﴾ النساء: 77 . ولما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أمر هؤلاء الناس قال: (ما بال أقوام يقولون كذا وكذا.. والله إني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وآتي النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) . صحيح البخاري. ولكن الذي حدث أنه، دخل في الإسلام، أثناء عمليات الفتح الإسلامي، أناس من أهل الديانات السابقة، فكثر الزهَّاد الذين غالوا في الزهد، وظنوا أن نعيم الجنة ونعيم الدنيا ضدّان لا يجتمعان، ثم اختل التوازن عند الزهاد فأصبح خليطًا من الشعوذة والتعطيل والبطالة.
2- شيوع فكرة الإشراقيين من الفلاسفة الذين يرون تطهير النفس بالرياضة الروحية والتهذيب النفسي، وفكرة الحلول الإلهي في النفوس الإنسانية. وقد بدأت الفكرة تدخل بين الطوائف التي انتسبت إلى الإسلام حديثًا.
مبدأ الإشراق. الإشراق عند الصوفية انبعاث نور غير محسوس إلى الذهن تتم به المعرفة. وعلى هذا، فإن الإدراك والمعرفة أساسهما الإشراق والفيض.
مبدأ الحلول عند الصوفية. مبدأ الحلول هو ثاني المبادئ الصوفية. وهو حلول العنصر الإلهي في العنصر الإنساني.
وفي مذهب الحلول أن الله والعالم قد امتزجا، وأن الله والقوة الداخلية الفاعلة في العالم مترادفان.
مبدأ وحدة الوجود. وهو يعني عند الصوفية أن الله تعالى والخلق واحد. والحاكم والمحكوم شيء واحد. وما التعدد في الواقع إلا تعدد في شكل الوجود لا في ذات الموجود. وقد حمل هذه الفكرة ابن عربي. فالوجود كله هو صور تجلي الله تعالى.
يقول ابن عربي:
يا خالق الأشياء في نفسه أنت لما تخلقه جامع
تخلق مالا ينتهي كونه فيك فأنت الضيّق الواسع
ويقول الحلاج في ذلك:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرته أبصرتني وإذا أبصرتني أبصرتنا
وهذه هي فكرة الحلول عند الحلاج وغيره من المتصوفة إذ يزعمون أن الله قد حل في أجسادهم فأصبحوا يتصرفون كأنهم هو، وهذا قريب جدًا من فكرة الثالوث عند النصارى (الأب ـ الابن ـ الروح القدس) وربما دخلت هذه الفكرة إلى المتصوفة مع جملة ما دخل.
ومن الصوفية من اتخذ ناحية الشوق إلى الله تعالى. فقد أدخل أبو يزيد البسطامي ـ وهو فارسي الأصل ـ على التصوف فكرة الفناء في الله. وقال معروف الكرخي وهو من أصل فارسي: ¸إن محبة الله شيء لا يكتسب بالتعلم وإنما هي هبة من الله وفضل·.
والواقع أن مسألة الحلول مسألة غامضة وربما كان تفسيرها أن المحب يفنى في محبوبه، ويحبه بكل قلبه حتى أنه لا يكون هناك فرق بين المحب والمحبوب.
وحدة الشُّهود. وقد راض بعض الصوفية نفسه على تلك المحبة واتخذ منها سبيلاً للاتصال بالله تعالى. ونزع الصوفية في ذلك منزعًا ليس بالحلول ولا بوحدة الوجود ولكنه اتصال بالله أو اتحاد المخلوق بخالقه بسبب محبته إياه وخلوصه له سبحانه. وقد نحا ذلك المنحى ابن الفارض. ومضمون هذه الوحدة هو فناء الذات الفانية في ذات الله الباقية. ويسمِّي الصوفية هذه الحالة بوحدة الشهود. وقد أخذ الصوفية هذه الممارسة أو الرياضة عن النرفانا الهندية التي هي فناء الذات الفانية في الذات الباقية. وهذا تناقض واضح، إذ كيف يجتمع النقيضان (الفاني والباقي) والجوهر مختلف؟!.
ففي المحو بعد الصحو لم أك غيرها وذاتي بذاتي إذ تجلت تجلَّت
على أن الصوفية كانوا يأخذون بحرفية الحديث الشريف: ( لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما ترزق الطير؛ تغدو خماصًا وتروح بطانًا ) . مسند أحمد والترمذي وابن ماجه ومستدرك الحاكم. وهم بهذا أهل جبر يعتقدون أن ليس للإنسان إرادة فيما يفعل، وأن الإرادة لله الواحد القهار وليس لأحد سواه.
وهم لاعتقادهم بالجبر يفوِّضون في الأمور الغيبية تفويضًا مطلقًا ويرضون بكل ما يكون من الله تعالى لهم. وفي ذلك يقول أحدهم: ¸لو كان رضا الله في أن يدخلني النار كنت راضيًا·. وقد جمع الصوفية جمعًا غريبًا بين الجبر والتوكل، وحملوا أنفسهم على الرياضة الروحية ليتقربوا من ربهم وليرضى عنهم. والواقع أن عقيدة الصوفية، الخاصة بأن الولي يأخذ عن الله مباشرة، تلغي رسالة الأنبياء بل وتجعل الولي أفضل من النبي، وبالتالي تلغي الشر، وهذا وهم وباطل.