نتابع كلام الشيخ حفظه الله وغفر له :
" .... ومما يدل عليه من جهة النظر: أن الكبائر كالسرقة والزنا وشرب الخمر والقتل ونحو ذلك شُرعت لها الحدود، كذلك القذف شرعت لها الحدود والحدود مطهرة، والمرتد يقتل على كل حال، ووجود الحدود هذه دليل ظاهر على أنه ارتكب فعلا لم يخرجه من الملة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من بدل دينه فاقتلوه»، وقال «والتارك لدينه المفارق للجماعة» يعني ممن يحل دمه، فدل على أن وقوع هذه الذنوب من العبد تطهر بهذه الحدود وليست كفرا؛ لأنها لو كانت كفرا لكان يقتل ردة لقوله «من بدل دينه فاقتلوه».
ويدل عليه أيضا أن ولي الدم في القتل يعفو، فإذا عفا له السلطان إن شاء عفا وإن شاء أخذ، قال جل وعلا "وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا"[الإسراء:33]، قال "فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا" وهذا يدل على أن الحق هنا للمخلوق، وأما الردة فهي حق لله يعني أما الردة فجزاؤها حق لله جل وعلا ليس لولي المقتول.
فدلت هذه الأدلة ودل غيرها : على بطلان قول الخوارج ،وعلى ظهور قول أهل السنة والجماعة في هذه المسألة ؛في أن صاحب الذنب من الكبائر العملية التي ذكرنا بعضا منها، أنه لا يخرج من الإسلام بحصول الذنب منه؛ يعني بحصول ذنب منه أو بحصول كل ذنب أو أي ذنب منه؛ يعني ليس كل ذنب مخرجا له من ذلك؛ بل الكبائر العملية ليست كذلك يعني مخرجة له من الإسلام خلافا لقول الخوارج والمعتزلة في التخليد في النار... " انتهى
وأما الجملة الثانية وهي قوله (وَلا نَقُولُ: لا يَضُرُّ مَعَ الإيمَانِ ذَنْبٌ لمنْ عَمِلَه) فهذه أيضا فيها مخالفة للمرجئة الذين يقولون: لا يَضُرُّ مَعَ الإيمَانِ كما لا ينفع مع الكفر طاعة. والأدلة دلت على أن الذنوب تؤثر في الإيمان قال جل وعلا في ذكر القاتل"وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا"[النساء:93]، وقال جل وعلا في الربا "الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ"[البقرة:275]، وقال جل وعلا في المرابين "فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ"[البقرة:279]، وشرع الله جل وعلا الحد في السرقة "وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا"[المائدة:38]، وشرع الجلد في القذف وفي الزنا إلى آخر ذلك، وهذا يدل على أن هذه الأمور أثرت في الإيمان هذه الكبائر أثرت في الإيمان، والأحاديث عن النبي عليه الصلاة والسلام في هذا الباب كثيرة «لا يدخل الجنة قتاد»، «لا يدخل الجنة قاطع رحم» وهذا تأثير في الإيمان بسبب هذه الكبيرة.
المسألة الثانية: هذه الجملة اشتملت على معتقد فيه النهي عن التكفير، والتكفير تكفير أهل القبلة بأي ذنب حرام، والخوض في مسائل التكفير بلا علم أيضا حرام، وقد يكون من كبائر الذنوب؛ بل هو من كبائر الذنوب وذلك لأوجه:
1- الأول: أن الإسلام والإيمان ثبت في حق الشخص -في حق المعين- بدليل شرعي، فدخل في الإسلام بدليل، فإخراجه منه بغير حجة من الله - عز وجل - أو من رسوله صلى الله عليه وسلم هذا من القول على الله بلا علم ومن التعدي -من تعدي حدود الله-، ومن التقدم بين يدي الله - عز وجل - وبين يدي رسوله صلى الله عليه وسلم.
وهذا فيه التحذير من هذا الأمر الجلل وهو مخالفة ما ثبت بدليل إلى الهوى أو إلى غير دليل.
لهذا يقول العلماء: من ثبت إيمانه بدليل أو بيقين لم يزل عنه اسم الإيمان بمجرد شبهة عرضت أو تأويل تأوله؛ بل بد من حجة بينة لإخراجه من الإيمان، كما يقول ابن تيمية ولابد من إقامة حجة تقطع عنه المعذرة.
2- الثاني: من الأوجه في خطر التكفير وما تضمنته هذه الكلمة من معتقد أهل السنة والجماعة: أن التكفير خاض فيه الخوارج وهم أول الفئات التي خاضت في هذا الأمر، والصحابة رضوان الله عليهم أنكروا عليهم أبلغ الإنكار بل عدوهم رأس أهل الأهواء.
وأول مسألة خاض فيها الخوارج وسببت التوسع في التكفير هي مسألة الحكم بغير ما أنزل الله؛ حيث احتجوا على علي رضي الله عنه -وكانوا من جيش علي- بأنه حكم الرجال على كتاب الله، لما حصلت واقعة التحكيم بين أبي موسى الأشعري وبين عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
فقالوا: حكم الرجال على كتاب الله فهو كافر، فكفروا عليا رضي الله عنه، استدلالا بقوله - عز وجل – (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)[المائدة44].
فذهب إليهم ابن عباس يناظرهم حتى احتج عليهم بقول الله - عز وجل – (فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما)[النساء:35] الآية، فرجع ثلث الجيش وبقي طائفة منهم على ضلالهم وظهرت فرق كثيرة من الخوارج.
فيدلك على قبح الخوض في هذه المسألة بلا علم أنها شعار أهل الأهواء؛ أعني الخوارج وهم أول فرقة خرجت في هذه الأمة وخالفت الجماعة، ولا شك أن التزام نهج أتقى أهل الأرض بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المتعين.
3- الثالث: من أوجه بيان خطر التكفير والخوض فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما» يعني إن كان كافرا فهو كما ادعي عليه وإلا عادت إلى الآخر، وهذا وعيد شديد.
- وقد يكون التكفير مبعثه الهوى.
- وقد يكون مبعثه الجهل.
- وقد يكون مبعثه الغيرة.
فهذه ثلاثة أسباب لمنشإ التكفير: قد يكون الهوى -يعني التكفير بلا علم-، وقد يكون منشؤه الجهل، وقد يكون منشؤه الغيرة.
أما الأول والثاني فواضح -يعني الهوى والجهل-وأمثلة أهل الأهواء فيه كثيرة.
وأما الثالث وهو أن التكفير قد يحمل المرء عليه الغيرة على الدين قصة عمر رضي الله عنه مع حاطب ابن أبي بلتعة حيث لما حصل من حاطب ما حصل، قال عمر لنبينا صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق.
والحكم عليه بالنفاق حكم عليه بإبطانه للكفر، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يؤاخذ عمر رضي الله عنه بذلك لأنه من أهل بدر ولأنه قالها على جهة الغيرة وخطؤه مغفور له؛ لأنه من أهل الجنة؛ يعني لسبق كونه من أهل بدر.
فدل هذا على أن الغيرة ليست حجة شرعية في التوسع أو في ابتداء القول في هذه المسائل بلا علم أو في التكلم فيها.
الغيرة ليست عذرا، لهذا النبي صلى الله عليه وسلم ما عذر عمر بالغيرة، وإنما عذر عمر رضي الله عنه:
1- لاشتباه المقام أولا في حق حاطب.
2- ثم لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما بين عذره -يعني ما بين الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم عذره-
فقال النبي صلى الله عليه وسلم لما أخذ عمر بتلابيب حاطب، قال «أرسله يا عمر -أو دعه يا عمر-، يا حاطب: ما حملك على هذا؟» فلما استفصل منه رجع الأمر إلى الوضوح فيه.
- يتبع بإذن الله -
|