استخدم محرك جوجل للبحث في الملتقى

 

الرئيسية التسجيل البحث الرسائل طلب كود التفعيل تفعيل العضوية استعادة كلمة المرور
facebook facebook twetter twetter twetter twetter

المناسبات


   
العودة   ملتقى أحبة القرآن > ۩ البـــــرامج والتقنيــــات ۩ > ملتقى الكتب الإسلامية
ملتقى الكتب الإسلامية كل ما يتعلق بالكتب والمقالات والمنشورات الإسلامية،وغير ذالك
 

   
الملاحظات
 

 
   
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
 
قديم 08-30-2025, 08:29 PM   #1
مشرفة قسم القرآن

 
الملف الشخصي:






 


تقييم العضو:
معدل تقييم المستوى: 47

امانى يسرى محمد is a glorious beacon of lightامانى يسرى محمد is a glorious beacon of lightامانى يسرى محمد is a glorious beacon of lightامانى يسرى محمد is a glorious beacon of lightامانى يسرى محمد is a glorious beacon of lightامانى يسرى محمد is a glorious beacon of light

افتراضي 《روائع الفوائد من كتب الحافظ ابن القيم 》 المجموعة الأولى (١٦٠ فائدة)

      


قال الإمام ابن القيم-رحمه الله -:
١-وإنما يستقيم له هذا باستقامة قلبه وجوارحه؛ فاستقامة القلب بشيئين:
أحدهما: أن تكون محبة الله تعالى تتقدم عنده على جميع المحابِّ، فإذا تعارض حب الله تعالى وحب غيره سبق حُبُّ الله تعالى حُبَّ ما سواه، فرتّب على ذلك مقتضاه.
وما أسهل هذا بالدعوى، وما أصعبه بالفعل!، فعند الامتحان يكرم المرء أو يهان.
الأمر الثاني الذي يستقيم به القلب: تعظيم الأمر والنهي؛ وهو ناشئٌ عن تعظيم الآمر الناهي، فإن الله تعالى ذم من لا يُعَظِّمه، ولا يُعَظِّم أمره ونهيه، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا﴾ [نوح: ١٣]. قالوا في تفسيرها: مالكم لا تخافون لله تعالى عظمة.
وما أحسن ما قال شيخ الإسلام في تعظيم الأمر والنهي: «هو أن لا يُعارَضا بترخيصٍ جافٍّ، ولا يُعَرَّضا لتشديدٍ غالٍ، ولا يحملا على علةٍ تُوهِنُ الانقياد»
الوابل الصيب ص١٥
٢-ولو أن رجلًا يعاني البيع والشراء يفوته في صفقة واحدة في بلده من غير سفر ولا مشقّةٍ سبعة وعشرون دينارًا لأكل يديه ندمًا وأسفًا.
فكيف وكُلُّ ضِعْفٍ مما تضاعف به صلاة الجماعة خير من أَلْفٍ، وأَلْفِ أَلْفٍ، وما شاء الله تعالى؟!
فإذا فَوَّت العبد عليه هذا الربح خسر قطعًا!
الوابل الصيب ص١٦
٣-وأكثر الناس ما عندهم خَبَرٌ من السيئات التي تحبط الحسنات، وقد قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (٢)﴾ [الحجرات: ٢].
فحذر سبحانه المؤمنين من حبوط أعمالهم بالجهر لرسول الله ﷺ كما يجهر بعضهم لبعض، وليس هذا بردَّة، بل معصيةٌ يحبط بها العمل.
وصاحبُها لا يشعرُ بها .
فما الظَّنُّ بِمَنْ قَدَّم على قولِ الرسولِ ﷺ وهديه وطريقه قولَ غيره وهديَه وطريقَه؟! أليس هذا قد حبط عمله وهو لا يشعر؟!
الوابل الصيب ص٢١
٤-وما يُجَازى به المسيء: مِنْ ضيق الصدر، وقسوة القلب، وتَشَتُّتِه، وظُلْمَتِه، وحزازاته، وغمه، وهمه، وحزنه، وخوفه، وهذا أمر لا يكاد من له أدنى حِسٍّ وحياة يرتابُ فيه، بل الغموم والهموم والأحزان والضيق عقوباتٌ عاجلة، ونارٌ دنيوية، وجهنَّمُ حاضرةٌ.
والإقبالُ على الله تعالى، والإنابة إليه، والرضى به وعنه ، وامتلاء القلب من محبته، واللَّهج بذكره، والفرح والسرور بمعرفته ثوابٌ عاجل، وجَنَّةٌ حاضرة، وعَيْشٌ لا نسبة لعيش الملوك إليه ألبتة.
الوابل الصيب ص١٠٨
٥-وإنما تَقَرُّ أعين الناس بهم على حسب قرة أعينهم بالله عز وجل؛ فمن قَرَّتْ عينه بالله قَرَّتْ له كُلُّ عين، ومن لم تَقَرَّ عينه بالله تقطَّعت نفسه على الدنيا حسرات.
وإنما يصدِّق بهذه الأمور من في قلبه حياة، وأما ميت القلب فيوحِشُك، ثُمَّ فاسْتأنِسْ بغيبته ما أمكنك، فإنك لا يوحشك إلا حضوره عندك، فإذا ابتليت به، فأعطه ظاهرك، وتَرَحَّلْ عنه بقلبك، وفارقه بسرِّك، ولا تشتغل به عما هو أولى بك.
الوابل الصيب ص١١١
٦-فسبحان من جعل كلامه لأدواء الصدور شافيًا، وإلى الإيمان وحقائقه مناديًا، وإلى الحياة الأبديةِ والنعيم المقيم داعيًا، وإلى طريق الرشاد هاديًا.
لقد أسمع منادي الإيمان لو صادف آذانًا واعية، وَشَفَتْ مواعظُ القرآن لو وافقت قلوبًا من غَيِّها خالية، ولكن عَصَفَتْ على القلوب أهوية الشبهات والشهوات فأطفأت مصابيحها، وتمكنت منها أيدي الغفلة والجهالة فأغلقت أبواب رشدها، وأضاعت مفاتيحها، وران عليها كسبُها فلم ينفع فيها الكلام، وسَكِرَتْ بشهوات الغيِّ وشبهات الباطل فلم تُصْغِ بعده إلى الملام، وَوُعِظَتْ بمواعظ أنكى فيها من الأسِنَّة والسِّهام، ولكنْ ماتت في بحر الجهل والغفلة، وأَسْرِ الهوى والشهوة، و«ما لِجُرْحٍ بميِّتٍ إيلام»
الوابل الصيب ص١٢٧
٧-والطبقة الثالثة: الأشقياء، لا رواية، ولا دراية، ولا رعاية. ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (٤٤)﴾ [الفرقان: ٤٤] فهم الذين يضيّقون الديار، ويُغلون الأسعار، إنْ هَمُّ أحدِهم إلا بطنُه وفرجه، فإن ترقَّتْ هِمَّتهُ فوق ذلك كان همُّه -مع ذلك- في لباسه وزينته، فإن ترقَّتْ هِمَّته فوق ذلك كان في داره وبستانه ومركوبه، فإن ترقَّتْ هِمَّته فوق ذلك، كان هَمُّه في الرياسة والانتصار للنفس الكلبيَّة، فإن ارتفعت هِمَّته عن نصرة النَّفس الكلبيَّة، كان همُّه في نصرة النفس السَّبُعيَّة.
الوابل الصيب ص١٤٠
٨-وأما تقريبه البعيد-يقصد الذكر-؛ فإنه يقرِّب إليه الآخرة التي يُبَعِّدها منه الشيطان والأمل، فلا يزال يَلْهَجُ بالذكر حتى كأنه قد دخلها وحضرها، فحينئذ تَصْغُر في عينه الدنيا، وتَعْظُم في قلبه الآخرة.
ويُبَعِّدُ القريب إليه، وهي الدنيا التي هي أدنى إليه من الآخرة، فإن الآخرة متى قَرُبَتْ من قلبه بَعُدَتْ عنه الدنيا، كلما قَرُبَ من هذه مرحلة بَعُد من هذه مرحلة. ولا سبيل إلى هذا إلا بدوام الذكر، والله المستعان.
الوابل الصيب ص١٥٦
٩-فمجالس الذكر مجالس الملائكة، ومجالس الغفلة مجالس الشياطين، وكلٌّ مضافٌ إلى شكله وأشباهه، وكلُّ امرئ يَصْبُو إلى ما يناسبه.
الوابل الصيب ص١٧٧
١٠-الرابعة والخمسون: أنّ مُدْمِنَ الذِّكْر يدخل الجنة وهو يضحك؛ لما ذكر ابن أبي الدنيا عن عبد الرحمن بن مهدي، عن معاوية بن صالح، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير الحضرمي، عن أبيه، عن أبي الدرداء قال: «الذين لا تَزالُ ألسنتهم رَطْبَةً مِنْ ذكر الله عز وجل يدخل أحدهم الجنّة وهو يَضْحَك»
الوابل الصيب ص١٧٨
١١-وهذه الكلمة-يعني لا حول ولا قوة إلا بالله- لها تأثير عجيب في معاناة الأشغال الصعبة، وَتَحَمُّلِ المَشَاقِّ، والدخول على المُلوك، وَمْن يُخاف، وركوب الأهوال.
-ولها أيضًا تأثير عجيب في دفع الفقر، كما روى ابن أبي الدنيا عن الليث بن سعد، عن معاوية بن صالح، عن أسد بن وداعة قال: قال رسول الله ﷺ: «مَنْ قال: لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلَّا بالله مائة مرَّة في كل يوْم لم يُصِبْه فَقْرٌ أبَدًا» .
-وكان حبيب بن مسلمة يستحب إذا لقي عدُوًّا، أو ناهَضَ حصْنًا قَوْلَ: لا حَوْلَ ولا قُوَّة إلَّا بالله. وإنَّهُ نَاهَضَ يومًا حِصْنًا فانهزم الرُّوم، فقالها المسلمون وكبَّروا، فانْصَدَعَ الحِصْن.
الوابل الصيب ص١٨٧
١٢-قال عبد العزيز بن أبي رَوَّاد: كان رجل بالبادية قد اتخذ مسجدًا، فجعل في قِبْلته سبعة أحجار، وكان إذا قضى صلاته قال: يا أحجار! أُشْهِدُكم أن لا إله إلا الله. قال: فمرض الرجل، فَعُرِجَ بروحه. قال. فرأيت في منامي أنه أُمِر بي إلى النار. قال: فرأيت حجرًا من تلك الأحجار أعرفه قد عَظُم، فَسَدَّ عني بابًا من أبواب جهنم. قال: ثم أُتِي بي إلى الباب الآخر، فإذا حجرٌ من تلك الأحجار أعرفه قد عَظُم، فسَدَّ عني بابًا من أبواب جهنم، حتى سَدَّتْ عني بقيةُ الأحجار أبوابَ جهنم .
الوابل الصيب ص١٩٣
١٣-السابعة والستون: أنَّ الجبال والقفَار تَتَباهى، وتَسْتَبْشِر بمن يذكر الله عز وجل عليها.
قال ابن مسعود رضي الله عنه:
إن الجبل لينادي الجبل باسمه: أَمَرَّ بك اليوم أحد يذكر الله عز وجل؟ فإذا قال: «نعم» اسْتَبْشَر.
وقال عون بن عبد الله: إن البقاع لينادي بعضها بعضًا: يا جارتاه! أَمَرَّ بِكِ اليوم أحد يذكر الله؟ فقائلة: نعم، وقائلة: لا.
وقال الأعمش عن مجاهد: إن الجبل لينادي الجبل باسمه: يا فلان! هل مَرَّ بك اليوم ذاكرٌ لله عز وجل؟ فَمِنْ قائلٍ: لا، ومِنْ قائلٍ: نعم.
الوابل الصيب ص١٩٤
١٤-وقال أبو خلاد البصري: من دخل في الإسلام دخل في حِصْن، ومن دخل المسجد فقد دخل في حِصْنَيْن، ومن جلس في حلقة يذكر الله عز وجل فيها فقد دخل في ثلاثة حصون.
الوابل الصيب ٢٠٧
١٥-ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: «من حلف منكم فقال في حلفه: والَّلات والعُزَّى، فليقل: لا إله إلا الله، ومن قال لصاحبه: تعال أُقامِرْكَ، فليتصدق» .
فكل من حلف بغير الله فهذه كفارته؛ لأن النبي ﷺ قال: «من حلف بغير الله فقد أشرك» حديث صحيح.
وكفارة الشرك: التوحيد، وهو كلمة «لا إله إلا الله».
ومن قال: تعال أُقامِرْكَ، فقد تكلم بِهُجْرٍ وفُحْشٍ يتضمن أكل المال وإخراجه بالباطل، وكفارة هذه الكلمة بضد القِمار، وهو إخراج المال في أَحَقِّ مواضعه، وهو الصدقة.
الوابل الصيب ص٣٨٧
١٦-وعن عوف بن مالك أن النبي ﷺ قضى بين رجلين، فقال المَقْضِيُّ عليه لَمَّا أدبر: حسبنا الله ونعم الوكيل. فقال النبي ﷺ: «إن الله يلوم على العجز، ولكن عليك بالكَيْسِ، فإذا غلبك أمر فقل: حسبي الله ونعم الوكيل».
فنهى النبيُّ ﷺ أن يقول عند جريان القضاء ما يضرُّه ولا ينفعُه، وأَمَرَهُ أن يفعل من الأسباب ما لا غِنَى له عنه، فإن أعجزه القضاء قال: «حسبي الله ونعم الوكيل»، فإذا قال: «حسبي الله» بعد تعاطي ما أُمِرَ به من الأسباب قالها وهو محمودٌ، فانتفع بالفعل والقول، وإذا عجز وترك الأسباب وقالها؛ قالها وهو مَلُومٌ بترك الأسباب التي اقتضتها حكمة الله ﷿، فلم تنفعْهُ الكلمةُ نَفْعَها لِمَنْ فَعَلَ ما أُمِرَ به.
الوابل الصيب ص٤٠٢

٣١-أبو طالبٍ إذا سُئلَ عن اسمِهِ قال: عبدُ منافٍ. وإذا انتسبَ افْتَخَرَ بالآباءِ. وإذا ذُكِرَتِ الأموالُ عَدَّ الإبِلَ. وسلمانُ إذا سُئل عن اسمِهِ قال: عبدُ الله. وعن نسبهِ قال: ابنُ الإسلام. وعن مالِهِ قال: الفقرُ. وعن حانوتِهِ قال: المسَجدُ. وعن كَسْبهِ قال: الصبرُ. وعن لباسِهِ قال: التقوى والتواضعُ. وعن وسادِهِ قال: السهرُ. وعن فخرِهِ قال: «سلمانُ مِنَّا». وعن قصدِهِ قال: ﴿يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ [الأنعام: ٥٢]. وعن سيرهِ قال: إلى الجنة. وعن دليلِهِ في الطريق قال: إمامُ الخلق وهادي الأئمة.
الفوائد ص٥٤
٣٢-لو خرج عقلُك من سلطان هواك عادتِ الدولةُ له.
• دخلتَ دار الهوى؛ فَقامرْتَ بعُمرِكَ.
• إذا عرضتْ نظرةٌ لا تحلُّ فاعلم أنها مِسْعَرُ حَربٍ؛ فاستترْ منها بحجاب ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [النور: ٣٠]؛ فقد سَلِمتَ من الأثر، وكفى الله المؤمنين القتال.
• بحرُ الهوى إذا مَدَّ أغرق، وأخوفُ المَنافذِ على السابح فتحُ البصر في الماء.
الفوائد ٥٥
٣٣-يا مَنِ انحرفَ عن جادَّتِهِم! كنْ في أواخرِ الركب، ونَمْ إذا نِمتَ على الطريق؛ فالأميرُ يُراعِي السَّاقَةَ.
• قيل للحسن: سَبَقَنا القومُ على خيلٍ دُهْم، ونحنُ على حُمُرٍ مُعَقَّرةٍ، فقال: إن كنتَ على طريقِهِم؛ فما أسرعَ اللَّحاقَ بهم!
الفوائد ص٥٨
٣٤-مصابيحُ القلوبِ الطاهرةِ في أصل الفطرة مُنِيرةٌ قبل الشرائع، ﴿يَكَادُ زَيتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ﴾ [النور: ٣٥].
• وَحَّدَ قُسٌّ وما رأى الرسولَ، وكَفَرَ ابنُ أبيٍّ وقد صلى معه في المسجد.
الفوائد ص٥٨
٣٥-الدُّنيا كامرأةٍ بَغِيٍّ لا تَثْبُتُ مع زوجٍ، إنَّما تَخْطُبُ الأزواجَ لِيُسْتَحْسَنوا عليها؛ فلا ترضَ بالدِّياثَةِ.
مَيَّزْتُ بينَ جَمالِها وَفَعالِها ... فإذا الملاحةُ بالقباحَةِ لا تَفي
حَلَفَتْ لنا أنْ لا تَخونَ عُهودَنا ... فكأنَّها حَلَفَتْ لنا أنْ لا تَفي.
الفوائد ص٦١
٣٦-لمَّا عرف الموفَّقون قدْرَ الحياةِ الدُّنيا وقلة المُقام فيها؛ أماتوا فيها الهوى طلبًا لحياة الأبد. لمَّا استيقظوا من نوم الغفلة؛ استرجعوا بالجدِّ ما انتهبَهُ العدوُّ منهم في زمن البطالة، فلما طالت عليهم الطريقُ تلمَّحَوا المقصد، فقَرُبَ عليهم البعيدُ، وكلَّما أمرَّتْ لهم الحياةُ حَلا لهم تذكُّرُ ﴿هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (١٠٣)﴾ [الأنبياء: ١٠٣].
الفوائد ص٦٢
٣٧-وَقَعَ ثَعْلبانِ في شبكةٍ، فقال أحدُهما للآخرِ: أينَ الملتقى بعد هذا؟ فقال: بعد يومينِ في الدِّباغةِ.
• تالله ما كانتِ الأيامُ إلا منامًا؛ فاستيقظوا وقد حصلوا على الظَّفَرِ.
• ما مضى من الدُّنيا أحلامٌ، وما بقي منها أمانيُّ، والوقتُ ضائعٌ بينَهما.
الفوائد ٦٤
٣٨-اشترِ نفسَك اليومَ؛ فإنَّ السوقَ قائمةٌ، والثمنَ موجودٌ، والبضائع رخيصةٌ، وسيأتي على تلك السوق والبضائع يومٌ لا تَصِلُ فيه إلى قليل ولا كثير، ﴿ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ﴾ [التغابن: ٩]، ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيهِ﴾ [الفرقان: ٢٧].
الفوائد ص٦٦
٣٩-الدُّنيا مِضْمارُ سباقٍ، وقد انعقد الغبارُ، وخَفِيَ السابقُ، والناسُ في المِضمارِ بين فارسٍ وراجل وأصحابِ حُمُرٍ مُعَقَّرةٍ.
سَوْفَ تَرى إذا انْجَلى الغُبارُ ... أفَرَسٌ تَحْتَكَ أمْ حِمارُ
الفوائد ص٦٧
٤٠-إذا جَنَّ الليلُ تغالبَ النومُ والسهرُ؛ فالخوفُ والشوقُ في مقدَّم عسكرِ اليَقَظَةِ، والكسلُ والتَّواني في كتيبةِ الغفلةِ؛ فإذا حَمَلَ العزمُ حَمَلَ على الميمنةِ، فانهزمتْ جنود التفريطِ؛ فما يَطْلُعُ الفجرُ؛ إلا وقد قُسِمَتِ السُّهْمانُ وبَرَدَتِ الغنيمةُ لأهلِها.
الفوائد ص٦٩
٤١- كنْ من أبناءِ الآخرةِ، ولا تكُنْ من أبناءِ الدُّنيا؛ فإنَّ الولد يَتْبَعُ الأمَّ.
• الدُّنيا لا تُساوي نَقْل أقدامِكَ إليها؛ فكيف تَعْدو خلفَها؟!
• الدُّنيا جيفةٌ، والأسدُ لا يقعُ على الجِيَفِ.
الفوائد ص٧٠
٤٢-هذه سُنَّةُ الله في عبادِهِ؛ فما دُفِعَتْ شدائدُ الدُّنيا بمثل التوحيد، ولذلك كان دعاءُ الكَرْبِ بالتوحيد، ودعوةُ ذي النونِ التي ما دعا بها مكروبٌ إلَّا فرَّج الله كَرْبَهُ بالتوحيد.
فلا يُلْقي في الكُرَب العظام إلا الشِّرْكُ، ولا يُنجي منها إلا التوحيدُ؛ فهو مفزَعُ الخليقةِ وملجؤُها وحِصْنُها وغِياثُها.
الفوائد ص٧٣
٤٣-وَدَّع ابنُ عونٍ رجلًا فقال: عليك بتقوى الله؛ فإنَّ المتَّقي ليست عليه
وَحْشَةٌ.
وقال زيدُ بنُ أسلم: كان يُقالُ: من اتَّقى الله أحبَّهُ الناس وإنْ كرِهوا.
وقال الثوريُّ لابن أبي ذئبٍ: إن اتَّقَيْتَ الله كفاك الناس، وإن اتقيتَ الناسَ لن يُغْنوا عنك من الله شيئًا.
الفوائد ص٧٥
٤٤- صاحَ بالصحابة واعظُ ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ﴾ [الأنبياء: ١]، فجزعتْ للخوف قلوبُهم، فجرتْ من الحذر العيونُ، ﴿فَسَالتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا﴾ [الرعد: ١٧].
الفوائد ص٧٦
٤٥- تزيَّنَتِ الدُّنيا لعليٍّ فقال: أنتِ طالِقٌ ثلاثًا لا رجعَةَ لي فيك ! وكانت تكفيه واحدةٌ للسُّنَّةِ، لكنَّه جمع الثلاث؛ لئلَّا يُتَصوَّرَ للهوى جوازُ المراجعة، ودينُهُ الصحيحُ وطبعُهُ السليمُ يأنَفانِ من المحلِّل؛ كيف وهو أحدُ رُواةِ حديثِ: «لعن الله المُحَلِّل»
الفوائد ٧٦
٤٦-جمع النبيُّ ﷺ في قوله: «فاتَّقوا الله وأجْمِلوا في الطَّلَبِ» بين مصالح الدُّنيا والآخرةِ.
فنعيمُها ولَذَّتُها إنما يُنال بتقوى الله.
وراحةُ القلب والبدنِ وتركُ الاهتمامِ والحِرْصِ الشَّديدِ والتَّعَب والعَناءِ والكدِّ والشَّقاءِ في طلبِ الدُّنيا إنَّما يُنالُ بالإجمال في الطَّلَبِ.
فمنِ اتَّقى الله فازَ بلذَّةِ الآخرة ونعيمِها، ومن أجْمَلَ في الطَّلَب استراحَ من نَكَدِ الدُّنيا وهمومها. فالله المستعانُ.
الفوائد ص٨٢
٤٧-جَمَعَ النبيُّ ﷺ بين المَأْثَم والمَغْرم؛ فإنَّ المأثَمَ يوجِبُ خسارةَ الآخرةِ، والمغرمَ يوجِبُ خسارةَ الدُّنيا.
الفوائد ص٨٢
٤٨-أعلى الهِمَم في طلب العلم طلب علمِ الكتابِ والسُّنَّةِ، والفهم عن الله ورسوله نفسَ المراد، وعلم حدود المُنْزَل، وأخَسُّ هِمَم طلَّابِ العلم قَصْرُ هِمَّتِهِ على تتبُّع شواذِّ المسائل وما لم يَنْزِلْ ولا هو واقعٌ،
أو كانتْ هِمَّتُهُ معرفةَ الاختلاف وتتبُّعَ أقوال الناس، وليسَ له هِمَّةٌ إلى معرفةِ الصحيح من تلك الأقوال، وقَلَّ أنْ ينتفعَ واحدٌ من هؤلاءِ بعلمِهِ.
الفوائد ص٨٥
٤٩-علماءُ السَّوْءِ جلسوا على بابِ الجنَّةِ يدعونَ إليها الناسَ بأقوالِهِم ويَدْعونَهُم إلى النار بأفعالِهِم؛ فكلَّما قَالتْ أقوالُهُم للناس: هَلُمُّوا! قالتْ أفعالُهُم: لا تَسْمَعوا منهم! فلو كان ما دَعَوْا إليه حقًّا كانوا أولَ المستجيبين له! فهم في الصورة أدِلَّاءُ وفي الحقيقةِ قُطَّاعُ الطريق.
الفوائد ص٨٥
٥٠-العمُرُ بآخرِهِ، والعملُ بخاتمتِهِ.
• من أحدث قبْلَ السلام بطلَ ما مضى من صلاتِهِ، ومَنْ أفطر قبل غروب الشمس ذهب صيامُهُ ضائعًا، ومن أساءَ في آخر عُمُرِهِ لَقِيَ ربَّه بذلك الوجه.
الفوائد ص٨٨


٥١-يا لها بصيرةً عمياء! جَزِعَتْ من صبر ساعةٍ، واحتملتْ ذُلَّ الأبد! سافرتْ في طلب الدُّنيا وهي عنها زائلةٌ، وقعدتْ عن السفر إلى الآخرة وهي إليها راحلةٌ.
إذا رأيتَ الرجل يشتري الخسيسَ بالنفيسِ، ويَبيعُ العظيمَ بالحقير؛ فاعلمْ بأنَّه سفيهٌ.
الفوائد ص٩٣
٥٢-اجتنبْ من يُعادِي أهلَ الكتاب والسُّنَّة لئلَّا يُعْدِيك خُسرانُه.
• احترزْ من عدُوَّين هلك بهما أكثرُ الخلق: صادٍّ عن سبيل الله بشُبُهاتِه وزُخْرُفِ قوله، ومفتونٍ بدُنياه ورئاستِهِ.
الفوائد ١٠٥
٥٣- يا أيُّها الأعزلُ! احذرْ فراسةَ المتَّقي؛ فإنِّه يَرى عورةَ عملك من وراءِ سترِ «اتَّقوا فراسة المؤمن»
الفوائد ص١٠٦
٥٤-لا تَتِمُّ الرغبةُ في الآخرة إلا بالزُّهد في الدُّنيا.
ولا يستقيم الزُّهدُ في الدُّنيا إلا بعد نظرين صحيحين:
نظرٌ في الدُّنيا وسرعةِ زوالها وفنائها واضمحلالها ونقصها وخِسَّتها، وألم المزاحمة عليها والحرص عليها، وما في ذلك من الغُصَصِ والنَّغَصِ والأنكادِ، وآخِرُ ذلك الزوالُ والانقطاعُ، مع ما يُعقِبُ من الحسرة والأسف؛ فطالبُها لا يَنفكُّ من هَمٍّ قبل حصولها، وهَمٍّ في حالِ الظَّفرِ بها، وغمٍّ وحزنٍ بعد فواتها. فهذا أحدُ النظرين.
النظرُ الثاني في الآخرة، وإقبالِها ومجيئها ولا بُدَّ، ودوامِها وبقائها، وشرفِ ما فيها من الخيرات والمسرَّات، والتفاوت الذي بينه وبين ما ها هنا؛ فهي كما قال الله سبحانه: ﴿وَالْآخِرَةُ خَيرٌ وَأَبْقَى﴾ [الأعلى: ١٧]؛
فهي خيراتٌ كاملةٌ دائمةٌ، وهذه خيالاتٌ ناقصةٌ منقطعةٌ مضمحلَّةٌ.
فإذا تَمَّ له هذانِ النظرانِ آثرَ ما يَقتضِي العقلُ إيثارَهُ، وزَهِدَ فيما يقتضي الزُّهدَ فيه.
الفوائد ص١٣٦-١٣٧
٥٥-ولهذا نبذَها رسولُ الله ﷺ وراءَ ظَهْرِه هو وأصحابُه، وصَرَفُوا عنها قلوبَهم، واطَّرحُوها ولم يَألَفوها، وهَجَروها ولم يَميلوا إليها، وعَدُّوها سِجْنًا لا جنة، فزَهِدوا فيها حقيقةَ الزُّهد، ولو أرادوها لنالوا منها كلَّ محبوبٍ، ولوَصَلوا منها إلى كلِّ مرغوبٍ؛ فقد عُرِضتْ عليه مفاتيحُ كنوزِها فردَّها، وفاضَتْ على أصحابه فآثروا بها ولم يَبيعوا حظَّهم من الآخرة بها، وعلموا أنَّها مَعْبَرٌ ومَمَرٌّ لا دارُ مُقامٍ ومُستقَرّ، وأنها دارُ عبورٍ لا دارُ سُرورٍ، وأنها سحابةُ صَيفٍ تتقشَّعُ عن قليلٍ، وخيالُ طَيفٍ ما استتمَّ الزيارةَ حتى آذنَ بالرحيل.
الفوائد ص١٣٧
٥٦-ولمَّا بَعُدَ العهدُ بهذا العلم؛ آلَ الأمرُ بكثيرٍ من الناس إلى أن اتَّخذوا هواجسَ الأفكار وسوانحَ الخواطر والآراء علمًا، ووضعوا فيها الكتبَ، وأنفقوا فيها الأنفاسَ، فضيَّعوا فيها الزمان، وملؤوا بها الصحفَ مدادًا والقلوب سوادًا، حتى صَرَّح كثيرٌ منهم أنَّه ليس في القرآن والسنة علمٌ! وأن أدلَّتهما لفظيةٌ لا تفيدُ يقينًا ولا علمًا!! وصَرَخَ الشيطانُ بهذه الكلمة فيهم، وأذَّنَ بها بين أظهرهم، حتى أسمعَها دانِيهم لقاصيهم، فانسلختْ بها القلوبُ من العلم والإيمان كانسلاخ الحيَّة من قِشْرها والثوب عن لابسه .
الفوائد ص١٥٢
٥٧-أغبى الناس مَن ضَلَّ في آخر سفره وقد قاربَ المنزلَ.
• العقولُ المؤيَّدةُ بالتوفيق تَرى أنَّ ما جاء به الرسولُ ﷺ هو الحقُّ الموافقُ للعقل والحكمة، والعقولُ المضروبة بالخِذْلانِ ترى المعارضة بين العقل والنقل وبين الحكمة والشرع.
• أقربُ الوسائل إلى الله ملازمةُ السُّنَّة والوقوفُ معها في الظاهر والباطن، ودوامُ الافتقار إلى الله، وإرادةُ وجهه وحده بالأقوال والأفعال. وما وصلَ أحدٌ إلى الله إلَّا من هذه الثلاثة، وما انقطع عنه أحدٌ إلّا بانقطاعه عنها أو عن أحدها.
الفوائد ١٥٧
٥٨-وأعظمُ هذه الإضاعات إضاعتان هُما أصلُ كلِّ إضاعةٍ: إضاعةُ القلب وإضاعةُ الوقت؛ فإضاعة القلب من إيثار الدُّنيا على الآخرة، وإضاعةُ الوقت من طول الأمل.
فاجتمع الفسادُ كلُّه في اتباع الهوى وطول الأمل، والصلاحُ كلُّه في اتِّباع الهدى والاستعداد للِّقاء.
والله المستعانُ.
الفوائد ١٦٢
٥٩-ومن لطائف التعبُّد بالنعم أن يَستكثِرَ قليلَها عليه، ويَستقِلَّ كثيرَ شكره عليها، ويعلم أنها وصلت إليه من سيده من غير ثمن بذله فيها، ولا وسيلةٍ منه توسَّل بها إليه، ولا استحقاقٍ منه لها، وأنها لله في الحقيقة لا للعبد، فلا تزيدُهُ النعم إلا انكسارًا وذلًّا وتواضعًا ومحبةً للمنعم.
وكلَّما جدَّد له نعمةً أحدثَ لها عبوديةً ومحبةً وخضوعًا وذلًّا، وكلما أحدثَ له قبضًا أحدثَ له رضىً، وكلما أحدثَ ذنبًا أحدثَ له توبةً وانكسارًا واعتذارًا، فهذا هو العبد الكيِّسُ، والعاجزُ بمعزلٍ عن ذلك.
الفوائد ص١٦٥
٦٠-ولا تَستصعِبْ مخالفةَ الناس والتحيُّز إلى الله ورسوله ولو كنتَ وحدك؛ فإن الله معك، وأنت بعينه وكَلاءتِه وحفظِه لك، وإنما امتحن يقينَك وصبَرك.
وأعظم الأعوان لك على هذا بعد عون الله التجردُ من الطمع والفزع؛ فمتى تجرَّدتَ منهما هان عليك التحيُّزُ إلى الله ورسوله، وكنتَ دائمًا في الجانب الذي فيه الله ورسوله، ومتى قام بك الطمع والفزعُ فلا تَطمَعْ في هذا الأمر، ولا تُحدِّثْ نفسَك به.
فإن قلتَ: فبأيِّ شيءٍ أستعينُ على التجرُّد من الطمع ومن الفزع؟ قلتُ: بالتوحيد، والتوكُّل، والثقة بالله، وعلْمِك بأنه لا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يذهب بالسيئات إلَّا هو، وأنَّ الأمر كلَّه لله ليس لأحد مع الله شيءٌ.
الفوائد ص١٦٨
٦١-لا ينتفع بنعمة الله بالإيمان والعلم إلا من عرفَ نفسه، ووقف بها عند قدرها، ولم يَتجاوزهُ إلى ما ليس له، ولم يَتَعدَّ طورَه، ولم يقل: هذا لي، وتيقَّن أنه لله ومن الله وبالله؛ فهو المانُّ به ابتداءً وإدامةً بلا سبب من العبد ولا استحقاقٍ منه، فتُذِلُّه نِعمُ الله عليه، وتَكْسِره كسرةَ من لا يرى لنفسه ولا فيها خيرًا البتة، وأن الخير الذي وصل إليه فهو لله وبه ومنه، فتُحدِثُ له النعمُ ذلًّا وانكسارًا عجيبًا لا يُعبَّرُ عنه؛ فكلما جدَّد لهُ نعمةً ازداد له ذُلًّا وانكسارًا وخشوعًا ومحبّةً وخوفًا ورجاءً.
الفوائد ص٢٠١
٦٢-قال أبو الدرداءِ رضي الله غنه: يا حبَّذا نومُ الأكياس وفِطْرُهم؛ كيف يغبنون به قيام الحمقى وصومهم؛ والذرةُ من صاحب تقوى أفضلُ من أمثال الجبال عبادةً من المُغترِّين ؟!
وهذا من جواهر الكلام وأدلِّه على كمال فقه الصحابة وتقدمهم على من بعدهم في كل خير .
فاعلمْ أن العبد إنما يَقطع منازلَ السير إلى الله بقلبه وهمته لا ببدنِه، والتقوى في الحقيقة تقوى القلوب لا تقوى الجوارح.
قال تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (٣٢)﴾ [الحج: ٣٢].
الفوائد ص٢٠٦
٦٣-قال ابن مسعود-رضي الله عنه-:
لا يكن أحدكم إمَّعةً! قالوا: وما الإمعةُ؟ قال: يقولُ: أنا مع الناس؛ إن اهتَدوا اهتديتُ، وإن ضلُّوا ضللتُ، ألا لِيوطِّنْ أحدُكم نفسَه على أنه إن كفَر الناسُ لا يكفر
الفوائد ٢١٨
٦٤-قال ابن مسعود-رضي الله عنه -:
كل فرحةٍ تَرْحةٌ، وما مُلئَ بيتٌ حبرةً إلَّا مُلئَ عبرةً.
• ما منكم إلا ضيفٌ وما له عاريةٌ؛ فالضيف مرتحلٌ، والعارية مؤداةٌ إلى أهلها.
• يكون في آخر الزمان أقوامٌ أفضلُ أعمالهم التلاوُمُ بينهم، يُسمَّون الأنتانَ .
الفوائد ٢١٧
٦٥-لا يجتمع الإخلاصُ في القلب ومحبةُ المدح والثناء والطمع فيما عند الناس إلَّا كما يجتمع الماءُ والنار والضبُّ والحوتُ.
فإذا حدَّثتْك نفسُك بطلب الإخلاص فأقبِلْ على الطمع أولًا فاذبحْه بسكين اليأس، وأقبِلْ على المدح والثناء فازهد فيهما زهدَ عُشاق الدُّنيا في الآخرة؛ فإذا استقام لك ذبحُ الطمع والزُّهدُ في الثناء والمدح؛ سَهُلَ عليك الإخلاص.
الفوائد ص٢١٩
٦٦-فاحملْ بنيانَك على قوَّة أساس الإيمان؛ فإذا تشعَّثَ شيءٌ من أعالي البناء وسطحه كان تداركه أسهلَ عليك من خراب الأساس.
وهذا الأساس أمران: صحةُ المعرفة بالله وأمره وأسمائه وصفاته. والثاني: تجريدُ الانقياد له ولرسوله دون ما سواه. فهذا أوثق أساسٍ أسَّس العبدُ عليه بنيانَه، وبحسبه يعتلي البناء ما شاء.
فأحْكِم الأساسَ، واحفظ القوة، ودُمْ على الحِمْية، واستفرِغْ إذا زاد بك الخلط، والقصدَ القصدَ وقد بلغتَ المراد، وإلَّا فما دامت القوة ضعيفةً والمادةُ الفاسدة موجودةً والاستفراغُ معدومًا:
فاقْرَ السَّلامَ على الحياة فإنَّها ... قد آذنتْك بسرعةِ التَّوْديعِ
الفوائد ص٢٢٩
٦٧-قال تعالى عن أهل النار: ﴿فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (١١)﴾ [الملك: ١١].
وقال عمن أهلكهم في الدنيا: إنهم لما رأوا آياته وأحسوا بعذابه قالوا: ﴿يَاوَيلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (١٤) فَمَا زَالتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (١٥)﴾ [الأنبياء: ١٤ - ١٥].
وقال أصحاب الجنة التي أفسدها عليهم لما رأوها قالوا: ﴿سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (٢٩)﴾ [القلم: ٢٩].
قال الحسن: لقد دخلوا النار وإنَّ حمدهُ لفي قلوبهم ما وجدوا عليه حجة ولا سبيلا.
الفوائد ص٢٣٦
٦٨-السَّنة شجرةٌ، والشهور فروعها، والأيام أغصانها، والساعات أوراقها، والأنفاس ثمرها، فمن كانت أنفاسه في طاعته فثمرة شجرته طيبةٌ، ومن كانت في معصيةٍ فثمرته حنظلٌ، وإنما يكون الجَدَادُ يوم المعاد؛ فعند الجَدَاد يتبينُ حلو الثمار من مُرّها.
• والإخلاص والتوحيد شجرةٌ في القلب؛ فروعها الأعمال، وثمرها طيب الحياة في الدنيا والنعيم المقيم في الآخرة، وكما أن ثمار الجنة لا مقطوعةٌ ولا ممنوعةٌ؛ فثمرة التوحيد والإخلاص في الدُّنيا كذلك.
الفوائد ص٢٤٠
٦٩-العارفُ لا يأمر الناسَ بترك الدنيا؛ فإنهم لا يقدرون على تركها، ولكن يأمرهم بترك الذنوب مع إقامتهم على دنياهم؛ فترك الدنيا فضيلة وترك الذنوب فريضةٌ؛ فكيف يُؤمَر بالفضيلة من لم يُقِم الفريضة؟!
فإن صعُب عليهم ترك الذنوب؛ فاجتهد أن تحبّب الله إليهم بذكر آلائه وإنعامه وإحسانه وصفات كماله ونعوت جلاله؛ فإن القلوب مفطورةٌ على محبته؛ فإذا تعلقتْ بحبه هانَ عليها ترك الذنوب والاستقلال منها والإصرار عليها.
وقد قال يحيى بن معاذ: طلبُ العاقلِ للدنيا خيرٌ من ترك الجاهل لها.
الفوائد ص٢٤٧
٧٠-المواساةُ للمؤمنين أنواعٌ: مواساةٌ بالمال، ومواساةٌ بالجاه، ومواساةٌ بالبدن والخدمة، ومواساةٌ بالنصيحة والإرشاد، ومواساة بالدعاء والاستغفار لهم، ومواساةٌ بالتوجع لهم.
وعلى قدر الإيمان تكون هذه المواساة؛ فكلما ضَعُفَ الإيمان ضعفت المواساةُ، وكلما قوي قويتْ.
وكان رسول الله ﷺ أعظمَ النالس مواساةً لأصحابه بذلك كله؛ فلأتباعه من المواساة بحسب اتباعهم له.
ودخلوا على بِشر الحافي في يوم شديد البرد، وقد تجرَّد، وهو يَنتفِضُ، فقالوا: ما هذا يا أبا نصر؟ فقال: ذكرتُ الفقراء وبردَهم، وليس لي ما أواسيهم به، فأحببتُ أن أواسيَهم في بردهم.
الفوائد ص٢٥٠
٧١-سئل سهل التستري: الرجل يأكل في اليوم أكلةً؟ قال: أكل الصديقين. قيل له: فأكلتين؟ قال: أكل المؤمنين. قيل له: فثلاث أكلاتٍ؟ فقال: قل لأهله يَبنُوا له مِعْلفًا.
الفوائد ص٢٦١
٧٢-وليس على العبد أضرُّ من مَلَلِه لنعم الله؛ فإنه لا يراها نعمة ولا يشكره عليها ولا يفرح بها، بل يَسخَطها ويشكوها ويعدُّها مصيبةً، هذا وهي من أعظم نعم الله عليه.
فأكثر الناس أعداءُ نِعَمِ الله عليهم، ولا يَشعُرون بفتح الله عليهم نِعمَه، وهم مجتهدون في دفعها وردَّها جهلًا وظلمًا؛ فكم سَعَتْ إلى أحدهم من نعمةٍ وهو ساعٍ في ردِّها بجهده! وكم وصلتْ إليه وهو ساعٍ في دفعها وزوالها بظلمه وجهله!
قال تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الأنفال: ٥٣].
وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد: ١١].
الفوائد ص٢٦٣
٧٣-قال الإمام ابن القيم-رحمه الله-:
وعلى قدر قرب قلبك من الله تَبعُد من الأنس بالناس ومساكنتهم، وعلى قدر صيانتك لِسرِّك وإرادتك يكون حفظه، وملاك ذلك صحةُ التوحيد، ثم صحة العلم بالطريق، ثم صحة الإرادة، ثم صحة العمل.
والحذرَ كلَّ الحذر من قصد الناس لك وإقبالهم عليك وأن يَعثُروا على موضع غرضك؛ فإنها الآفة العظمى.
الفوائد ٢٧٧
٧٤-للعبد بين يدي الله موقفان: موقفٌ بين يديه في الصلاة، وموقفٌ بين يديه يوم لقائه. فمن قام بحق الموقف الأول هُوِّن عليه الموقف الآخر، ومن استهان بهذا الموقف ولم يُوفِّه حقَّه شُدِّد عليه ذلك الموقف.
قال تعالى: ﴿وَمِنَ اللَّيلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيلًا طَويلًا (٢٦) إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (٢٧)﴾ [الإنسان: ٢٦ - ٢٧].
الفوائد ص٢٩١
٧٥-قوله تعالى: ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣)﴾ [الأنبياء: ٨٣]: جمع في هذا الدعاء بين: حقيقة التوحيد، وإظهار الفقر والفاقة إلى ربه، ووجود طعم المحبة في التملُّق له، والإقرار له بصفة الرحمة، وأنه أرحم الراحمين، والتوسل إليه بصفاته سبحانه، وشدة حاجته هو وفقره.
ومتى وجدَ المبتلى هذا كُشِفتْ عنه بلواه.
وقد جُرِّبَ أنه من قالها سبع مراتٍ -ولا سيما مع هذه المعرفة- كشفَ الله ضرَّه.
الفوائد ٢٩٢
٧٦-العبد دائمًا متقلبٌ بين أحكام الأوامر وأحكام النوازل؛ فهو محتاجٌ -بل مضطرٌّ- إلى العون عند الأوامر وإلى اللطف عند النوازل، وعلى قدر قيامه بالأوامر يحصل له من اللطف عند النوازل؛ فإن كمل
القيام بالأوامر ظاهرًا وباطنًا ناله اللطف ظاهرًا وباطنًا، وإن قام بصُوَرها دون حقائقها وبواطنها ناله اللطف في الظاهر وقلَّ نصيبُه من اللطف في الباطن.
الفوائد ص٢٩٣
٧٧-ومما ينبغي أن يُعلَم أن أسباب الخذلان من بقاء النفس على ما خُلِقَتْ عليه في الأصل وإهمالها وتخليتها؛ فأسباب الخذلان منها وفيها، وأسباب التوفيق من جَعْلِ الله سبحانه لها قابلةً للنعمة؛ فأسبابُ التوفيق منه ومن فضلِه، وهو الخالق لهذه وهذه؛ كما خلق أجزاءَ الأرض؛ هذه قابلة للنبات وهذه غير قابلة له، وخلق الشجرَ؛ هذه تَقبلُ الثمرة وهذه لا تقبلها، وخلق النحلةَ قابلةً لأن يخرج من بطونها شرابٌ مختلفٌ ألوانه، والزُّنبور غير قابلٍ لذلك، وخلق الأرواحَ الطيبة قابلةً لذكره وشكره ومحبتِه وإجلاله وتعظيمه وتوحيده ونصيحة عباده، وخلق الأرواحَ الخبيثة غيرَ قابلةٍ لذلك بل لضده، وهو الحكيم العليم.
الفوائد ص٢٩٩-٣٠٠

٧٨-وكاغترار بعض الجهال بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦)﴾ [الانفطار: ٦] فيقول: كَرَمُه! وقد يقول بعضهم: إنّه لقّن المغترَّ حجتَه، وهذا جهل قبيح. وإنما غرّه بربّه الغرورُ -وهو الشيطان- ونفسُه الأمّارة بالسوء، وجهلُه، وهواه.
وأتى سبحانه بلفظ «الكريم»، وهو السيّد العظيم المطاع الذي لا ينبغي الاغترار به ولا إهمال حقّه، فوضع هذا المغترُّ الغرورَ في غير موضعه، واغترّ بمن لا ينبغي الاغترار به.
الداء والدواء ص٤١
٧٩-قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢١٨] ، فجعل هؤلاء أهل الرَّجاء، لا البطّالين والفاسقين.
وقال تعالى: ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النحل: ١١٠]، فأخبر سبحانه أنه بعد هذه الأشياء غفور رحيم لمن فعلها.
فالعالم يضع الرَّجاء مواضعه، والجاهل المغتر يضعه في غير مواضعه.
الداء والدواء ص٥٠
٨٠-قال أبو الوفاء بن عقيل:احذَرْه ولا تغترَّ ، فإنّه قطع اليد في ثلاثة دراهم، وجلد الحدّ في مثل رأس الإبرة من الخمر ، وقد دخلت امرأة النارَ في هرّة ، واشتعلت الشملة نارًا على من غلّها وقد قتِل شهيدًا.
الداء والدواء ص٧٥
٨١-وأعظم الخلق غرورًا من اغترّ بالدنيا وعاجلها، فآثرها على الآخرة، ورضي بها من الآخرة ، حتّى يقولُ بعض هؤلاء: الدنيا نقد، والآخرة نسيئة، والنقد أنفع من النسيئة! ويقول بعضهم: ذَرّة منقودة، ولا دُرّة موعودة! ويقول آخر منهم: لذاتُ الدنيا متيقَّنة، ولذات الآخرة مشكوك
فيها، ولا أدع اليقين للشك!
الداء والدواء ص٧٨
٨٢-وسرّ المسألة أنّ الرَّجاء وحسن الظن إنما يكون مع الإتيان بالأسباب التي اقتضتها حكمة الله في شرعه، وقدَره، وثوابه وكرامته؛ فيأتي العبد بها، ثم يحسن ظنّه بربه، ويرجوه أن لا يكِلَه إليها، وأن يجعلها موصلةً إلى ما ينفعه، ويصرف ما يعارضها، ويبطل أثرها.
الداء والدواء ص٨٧
٨٣-فهذا الصدّيق يقول: «وددتُ أنّي شعرة في جنب عبد مؤمن». ذكره أحمد عنه .
وذكر عنه أنه كان يمسك بلسانه ويقول: هذا أوردني الموارد!
وكان يبكي كثيرًا، ويقول: ابكوا، فإنْ لم تبكُوا فتباكَوا.
وكان إذا قام إلى الصلاة كأنه عود من خشية الله عز وجل .
وأتي بطائر، فقلّبه، ثم قال: ما صِيدَ مِن صَيدٍ ولا قُطعت من شجرة إلا بما ضيّعَتْ من التسبيح.
الداء والدواء ص٩١
٨٤-فإذا كان يومُ المعاد وحشرِ الأجساد علت الوجوهَ علوًّا ظاهرًا يراه كلُّ أحد، حتّى يصير الوجه أسود مثل الحُمَمة. فيا لها عقوبةً لا توازن لذاتِ الدنيا بأجمعها من أولها إلى آخرها! فكيف بقسط العبد المنغَّص المنكَّد المتعَب في زمن إنّما هو ساعة من حُلْم! فالله المستعان.
الداء والدواء ص١٩٥
٨٥-فأيّ عقل لمن آثر لذةَ ساعةٍ أو يوم أو دهرٍ، ثم تنقضي كأنّها حُلْم لم يكن، على هذا النعيم المقيم والفوز العظيم، بل هو سعادة الدنيا والآخرة؟ ولولا العقل الذي تقوم به عليه الحجّة لكان بمنزلة المجانين، بل قد يكون المجانين أحسن حالًا منه وأسلم عاقبةً. فهذا من هذا الوجه.
وأما تأثيرها في نقصان العقل المعيشي، فلولا الاشتراك في هذا النقصان لَظهَر لمطيعنا نقصانُ عقلِ عاصينا، ولكن الجائحة عامّة، والجنون فنون!
الداء والدواء ص١٩٥
٨٦-وقد تقارن المضرة للذنب، وقد تتأخر عنه إمّا يسيرًا وإمّا مدةً، كما يتأخر المرض عن سببه أو يقارنه. وكثيرًا ما يقع الغلط للعبد في هذا المقام، ويذنب الذنب فلا يرى أثره عقيبه، ولا يدري أنه يعمل عمله على التدريج شيئًا فشيئًا، كما تعمل السموم والأشياء الضارّة حذو القُذّة بالقذّة. فإنْ تدارك العبدُ بالأدوية والاستفراغ والحمية وإلا فهو صائر إلى الهلاك. هذا إذا كان ذنبًا واحدًا لم يتداركه بما يزيل أثره، فكيف بالذنب على الذنب كلّ يوم وكلّ ساعة؟ فالله المستعان.
الداء والدواء ص٢٧٢
٨٧-وحدّ الزاني المحصن مشتقّ من عقوبة الله سبحانه لقوم لوط بالقذف بالحجارة.
وذلك لاشتراك الزنى واللواط في الفحش، وفي كلّ منهما فساد يناقض حكمة الله في خلقه وأمره. فإنّ في اللواط من المفاسد ما يفوت الحصر والتعداد.
ولأنْ يُقتل المفعولُ به خير له من أن يُؤتى، فإنّه يَفسد فسادًا لا يرجى له بعده صلاح أبدًا. ويذهب خيره كلّه، وتمُصّ الأرض ماويّة الحياء من وجهه، فلا يستحي بعد ذلك لا من الله ولا من خلقه، وتعمل في قلبه وروحه نطفة الفاعل ما يعمل السمّ في البدن.
الداء والدواء ص٣٨٢-٣٨٣
٨٨-وأطيب العيش وألذّه على الإطلاق عيش المحبّين المشتاقين المستأنسين، فحياتهم هي الحياة الطيبة في الحقيقة، ولا حياة للعبد أطيب ولا أنعم ولا أهنأ منها. وهي الحياة الطيبة المذكورة في قوله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ [النحل: ٩٧]. ليس المراد منها الحياة المشتركة بين المؤمنين والكفار، والأبرار والفجار، من طيب المأكل والملبس والمشرب والمنكح؛ بل ربما زاد أعداء الله على أوليائه في ذلك أضعافًا مضاعفةً.
الداء والدواء ص٤٢٩
٨٩-فلا تصحّ الموالاة إلا بالمعاداة، كما قال تعالى عن إمام الحنفاء المحبين أنه قال لقومه: ﴿قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ [الشعراء: ٧٥ - ٧٧]. فلم تصحّ لخليل الله الموالاة والخلة إلا بتحقيق هذه المعاداة فإنّه لا وَلاءَ إلّا ببراء، أو، لا وَلاءَ لله إلّا بالبراءة من كل معبود سواه. قال تعالى: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [الممتحنة: ٤].
وقال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (٢٧)﴾ [الزخرف: ٢٦، ٢٧]. أي جعل هذه الموالاة لله والبراءة من كل معبود سواه كلمةً باقيةً في عقبه، يتوارثها الأنبياء وأتباعهم بعضهم عن بعض. وهي كلمة لا إله إلا الله، وهي التي ورّثها إمامُ الحنفاء لأتباعه إلى يوم القيامة.
الداء والدواء ص٤٥٥-٤٥٦
٩٠-وأصل فساد العالم إنّما هو من اختلاف الملوك والخلفاء. ولهذا لم يطمع أعداء الإِسلام فيه في زمن من الأزمنة إلا في زمن تعدّد ملوك المسلمين واختلافهم وانفراد كل منهم ببلاد، وطلب بعضهم العلوّ على بعض.
فصلاح السماوات والأرض واستقامتهما وانتظام أمر المخلوقات على أتمّ نظام من أظهر الأدلّة على أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كلّ شيء قدير، وأنّ كل معبود من لدن عرشه إلى قرار أرضه باطل إلا وجهَه الأعلى.
قال تعالى: ﴿مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (٩١) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٩٢)﴾ [المؤمنون: ٩١، ٩٢]
الداء والدواء ٤٧١
٩١-وهذا شأن كلّ فعل تولّد عن طاعة ومعصية. فكل ما تولّد عن الطاعة فهو زيادة لصاحبه وقربة، وكل ما تولّد عن المعصية فهو خسران لصاحبه وبعد. قال تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١٢٠) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [التوبة: ١٢٠، ١٢١].
فأخبر سبحانه في الآية الأولى أنّ المتولّد عن طاعتهم وأفعالهم يُكتَب لهم به عمل صالح. وأخبر في الثانية أنّ أعمالهم الصالحة التي باشروها تكتَب لهم أنفسُها. والفرق بينهما أنّ الأول ليس من فعلهم، وإنّما تولد عنه فكُتِب لهم به عمل صالح. والثاني نفس أفعالهم فكُتبت لهم.
الداء والدواء ص٤٧٥
٩٢-والعشق مبادئه سهلة حلوة، وأوسطه همّ وشغلُ قلبٍ وسقم، وآخره عطَب وقتل، إن لم يتداركه عناية من الله، كما قيل:
وعِشْ خاليًا فالحبُّ أولُه عَنا ... وأوسطه سقم، وآخره قتلُ
وقال آخر:
تولَّعَ بالعشق حتّى عشِقْ ... فلمّا استقلّ به لم يُطِقْ
رأى لُجّةَ ظنّها موجةً ... فلما تمكّن منها غرِقْ
الداء والدواء ص٤٩٨

٩٣-فالعدوان هو تَعَدِّي حدود الله التي قال فيها: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾. وقال في موضع آخر: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾ . فنهى عن تعدّيها في آية، وعن قُرْبانها في آية. وهذا لأن حدوده سبحانه هي النهايات الفاصلةُ
بين الحلال والحرام، ونهاية الشيء تارةً تدخل فيه فتكون منه، وتارة لا تكون داخلةً فيه فيكون لها حكم مقابلِه. فبالاعتبار الأول نَهَى عن تعدِّيها، وبالاعتبار الثاني نَهَى عن قربانها.
الرسالة التبوكية ص١٣
٩٤-وأما الهجرة إلى الرسول ﷺ؛ فمَعلَمٌ لم يبقَ منه سوى رسمِه ، ومنهج لم تترك منه بُنَيّاتُ الطريقِ سوى اسمِه، ومَحَجَّةٌ سَفَتْ عليها السَّوافي فطَمَسَتْ رُسومَها، وأغارت عليها الأعادي فَغَوَّرت مناهلها وعيونها، فسالُكها غريب بين العباد، فريد بين كل حيٍّ وناد، بعيد على قرب المكان، وحيد على كثرة الجيران، مستوحش مما به يستأنسون، مستأنس مما به يستوحشون، مقيم إذا ظَعَنُوا، ظاعن إذا قَطَنوا ، منفرد في طريق طلبه، لا يَقَرُّ قراره حتى يَظْفَرَ بأربِه، فهو الكائنُ معهم بجسده، البائنُ منهم بمقصده، نامت في طلب الهدى أعينهم وما ليلُ مَطِيهِ بنائم ، وقعدوا عن الهجرةِ النبوية وهو في طلبها مُشَمِّرٌ قائم، يعيبونه بمخالفة آرائهم، ويُزْرُونَ عليه إزراء على جهالاتهم وأهوائهم؛ قد رَجَموا فيه الظُّنون، وأَذْكَوْا عليه العيون، وتَربَّصُوا به ريبَ المنون. ﴿فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ ﴾ . ﴿قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ .
نَحْنُ وإيَّاكُمُ نموتُ ولا ... أفلحَ عند الحسابِ مَن نَدِمَا
والمقصود أن هذه الهجرة النبوية شأنها شديد، وطريقها على غير المشتاق وَعِيْرٌ بعيد.
بعيدٌ على كسلانَ أو ذي مَلالةٍ ... وأما على المشتاقِ فهو قريبُ
ولَعمرُ اللهِ ما هي إلا نور يتلألأ، ولكنِ أنت ظَلامُه، وبدر أضاءَ مشارق الأرض ومغاربها، ولكن أنتَ غيْمُه وقَتَامُه، ومنهلٌ عذب صافي، ولكن أنت كَدَرُه، ومبتدأ له خَبَرٌ عظيمٌ، ولكن ليس عندك خبره.
الرسالة التبوكية ص٢١-٢٢-٢٣
٩٥-ومتى أراد العبدُ أن يَعلَمَ منزلته من هذا فلينظر في حاله، وليُطالِع قَلْبَه عند ورود حُكمه على خلاف هواه وغرضه، أو على خلاف ما قلَّد فيه أسلافه من المسائل الكبار وما دونها، ﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (١٥)﴾.
فسبحان الله كم من حَزازةٍ في قلوب كثيرٍ من الناس من كثير من النصوص وبوُدِّهم أن لو لم تَرِدْ؟
وكم من حَرَارةٍ في أكبادِهم منها؟.
وكم من شَجى حُلوقِهم من موردها؟
ستبدُو لهم تلك السرائر بالذي ... يَسُوءُ ويُخْزِيْ يومَ تُبلَى السَّرائرُ
الرسالة التبوكية ص٢٦
٩٦-فأمر سبحانه بالقيام بالقسط، وهو العدل، وهذا أمر بالقيام به في حقِّ كل أحد عَدُوًّا كان أو وليًّا، وأحقُّ ما قام له العبد بالقسط : الأقوالُ والآراء والمذاهب؛ إذ هي متعلقة بأمر الله وخبره؛ فالقيام فيها بالهوى والعصبية مضادٌّ لأمر الله، مُنافٍ لما بَعَثَ به رُسُلَه، والقيامُ فيها بالقسط وظيفةُ خلفاءِ الرسول في أمته، وأمنائِه بين أتباعه، ولا يستحقُّ اسمَ الأمانةِ إلا من قام فيها بالعدل المحض، نصيحةً لله ولكتابه ولرسوله ولعباده.
أولئك هم الوارثون حقًا، لا من يجعل أصحابه ونِحْلَته ومذهبَه عِيَارًا على الحق وميزانًا له؛ يُعادي من خالفه ويُوالِي من وافقَه لمجرد موافقته ومخالفته. فأين هذا من القيام بالقسط الذي فرضَه اللهُ على كل أحد؟ وهو في هذا الباب أعظم فرضًا، وأكبرُ وجوبًا.
الرسالة التبوكية ص٣٤
٩٧-فأيُّ ضلالٍ أعظمُ من ضلالِ مَن يزعم أن الهداية لا تحصل بالوحي، ثم يحيل فيها على عقلِ فلان ورأيِ فَلْتَان ؟ وقولِ زيدٍ وعمرو؟
فلقد عظُمتْ نعمةُ الله على عبدٍ عافاه من هذه البلية العظمى والمصيبة الكبرى، والحمد لله رب العالمين.
الرسالة التبوكية ص٥٠
٩٨-وقد ذكر تعالى حال هؤلاء الأتباع وحال من اتبعوهم في غير موضع من كتابه؛ كقوله تعالى: ﴿يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (٦٦) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (٦٧) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (٦٨)﴾ [سورة الأحزاب:٦٦-٦٨].
تمنى القوم طاعة الله وطاعةَ رسوله حين لا ينفعهم ذلك، واعتذروا بأنهم أطاعوا كُبَراءَهم ورؤساءهم، واعترفوا بأنهم لا عُذرَ لهم في ذلك، وأنهم أطاعوا الساداتِ والكُبراء وعَصَوا الرسول، وآلت تلك الطاعة والموالاة إلى قولهم: ﴿رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا﴾. وفي بعض هذا عبرةٌ للعاقل وموعظة شافية، وبالله التوفيق.
الرسالة التبوكية ص٥٢
٩٩-فهذه الأعمال التي كانت في الدنيا على غيرِ سُنّةِ رُسُلِه وطريقتِهم ولغيرِ وجهِه، يجعلها الله هباءً منثورًا، لا ينتفع منها صاحبها بشيء أصلًا؛ وهذا من أعظم الحسرات على العبد يوم القيامة أن يَرى سَعْيَه كلَّه ضائعًا لم ينتفع منه بشيء، وهو أحوج ما كان العامل إلى عمله، وقد سَعِدَ أهلُ السَّعي النافع بسعيهم.
الرسالة التبوكية ص٥٩
١٠٠-ورأس مال الأمر وعموده في ذلك إنما هو: دوامُ التفكر وتدبر آيات القرآن، بحيث يستولي على الفكر، ويَشْغَل القلبَ، فإذا صارتْ معاني القرآنِ مكانَ الخواطرِ من قلبه وهي الغالبةُ عليه، بحيث يَصير إليها مَفْزَعُه ومَلْجَؤُه، تَمَكَّنَ حينئذٍ الإيمانُ من قلبه، وجلس على كرسيه، وصار له التصرفُ، وصار هو الآمر المطاع أمره؛ فحينئذٍ يستقيم له سَيْرُه، ويتضح له الطريق، وتراه ساكنًا وهو يُبارِي الريحَ: ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ﴾[سورة النمل :٨٨]
الرسالة التبوكية ص٧٠
١٠١-ومن وَضَع دلالاتِ القرآن وألفاظه مواضعها، تبينَ له من أسرارِه وحِكَمِه ما يَهُزُّ العقول، ويعلم معه تنزُّلَه من حكيم حميد.
الرسالة التبوكية ص٨٣
١٠٢-وقوله تعالى: ﴿وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ﴾ [سورة الذاريات:٣٧]
فيه دليل على أن آيات الله سبحانه وعجائبه التي فَعَلَها في هذا العالم وأبقى آثارَها دالَّةً عليه وعلى صدقِ رسله، إنما ينتفع بها من يؤمن بالمعاد، ويخشى عذاب الله؛ كما قال تعالى في موضع آخر: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ﴾ [سورة هود:١٠٣]، وقال تعالى: ﴿سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى﴾ [سورة الأعلى: ١٠]
فإن من لا يؤمن بالآخرة غايتُه أن يقول: هؤلاء قومٌ أصابَهم الدهرُ كما أصابَ غيرَهم، ولا زال الدهرُ فيه الشقاءُ والسعادة، وأما من آمن بالآخرة وأشفقَ منها، فهو الذي ينتفع بالآيات والمواعظ.
الرسالة التبوكية ص٨٣-٨٤
١٠٣-وينبغي أن لا يتوقفَ العبدُ في سَيْرِه على هذه الغنيمة، بل يَسِيرُ ولو وحيدًا غريبًا، فانفرادُ العبدِ في طريق طلبِه دليلٌ على صدقِ المحبة.
الرسالة التبوكية ص٨٥
١٠٤-ومن أراد هذا السفرَ-يقصد سفر الهجرة إلى الله ورسوله-فعليه بمرافقة الأموات الذين هم في العالم أحياء، فإنَّه يَبلُغ بمرافقتِهم إلى مقصدِه، وليحذرْ من مرافقة الأحياء الذين في الناس أموات، فإنهم يَقطَعون عليه طريقَه، فليس لهذا السالكِ أنفعُ من تلك المرافقة، وأوفقُ له من هذه المفارقة، فقد قال بعضُ مَن سَلَفَ: «شتَّانَ بين أقوامٍ موتى تَحْيا القلوبُ بذكرِهم، وبين أقوامٍ أحياءٍ تموتُ القلوب بمخالطتِهم».
الرسالة التبوكية ص٨٥
١٠٥-فما على العبدِ أضرُّ من عُشَرائِه وأبناءِ جنسه، فإن نظره قاصر، وهِمَّتُه واقفةٌ عند التشبهِ بهم ومباهاتهم والسلوكِ أيَّةً سَلَكوا، حتى لو دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لأحبَّ أن يَدخُل معهم.
فمتى تَرقَّتِ هِمَّتُه من صحبتهم إلى صُحْبةِ مَن أشباحُهم مفقودةٌ، ومحاسنُهم وآثارُهم الجميلةُ في العالم مشهودةٌ ، استحدثَ بذلك همةً أخرى وعملًا آخر، وصارَ بين الناس غريبًا، وإن كان فيهم مشهورًا ونسيبًا، ولكنه غريب محبوبٌ يَرَى ما الناسُ فيه، وهم لا يرون ما هو فيه، يُقِيْمُ لهم المعاذيرَ ما استطاعَ، وينصحُهم بجهده وطاقته، سائرًا فيهم بعينين:
عين ناظرة إلى الأمر والنهي؛ بها يأمرهم وينهاهم، ويواليهم ويعاديهم، ويؤدي إليهم الحقوق، ويستوفيها عليهم.
وعين ناظرة إلى القضاء والقدر، بها يَرْحَمُهم ويدعو لهم ويستغفر لهم، ويلتمسُ لهم وجوهَ المعاذيرِ فيما لا يُخِلُّ بأمرٍ ولا يعود بنقضِ شرعٍ، قد وَسِعَتْهم بَسطتُه ورحمته ولينُه ومعذرتُه، واقفًا عند قوله تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [سورة الأعراف:١٩٩] متدبرًا لما تضمنتْه هذه الآية من حسن المعاشرة مع الخلق، وأداء حقِّ اللهِ فيهم، والسلامة من شرهم.
الرسالة التبوكية ص٨٨

١٠٦-وكل آفة تدخل على العبد، فسببها ضياعُ الوقت وفساد القلب، وتعود بضياع حظه من الله، ونقصان درجته ومنزلته عنده؛ ولهذا وصى بعض الشيوخ فقال: احذروا مخالطة من تُضيع مخالطته الوقت، وتُفسد القلب، فإنه متى ضاع الوقت وفسد القلب انفرطت على العبد أموره كلها، وكان ممن قال الله فيه: ﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾ [الكهف: ٢٨].
رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه ص٤
١٠٧-والغفلة عن الله والدَّار الآخرة متى تزوجت باتباع الهوى، تولد ما بينهما كل شر . وكثيرًا ما يقترن أحدهما بالآخر ولا يفارقه.
ومن تأمل فساد أحوال العالم عمومًا وخصوصًا، وجده ناشئًا عن هذين الأصلين، فالغفلة تحول بين العبد وبين تصور الحق ومعرفته والعلم به فيكون من الضالين. واتباع الهوى يصده عن قصد الحق وإرادته واتباعه ، فيكون من المغضوب عليهم.
رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه ص٤-٥
١٠٨-كما أن هدايته للغير وتعليمه ونصحه يفتح له باب الهداية، فإنَّ الجزاء من جنس العمل، فكلما هَدَى غيره وعلمه هداه الله وعلمه فيصير هاديًا مهديًا، كما في دعاء النبي ﷺ الذي رواه الترمذي وغيره: «اللهم زَيِّنا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مُضلِّين ...الحديث .
رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه ص٩
١٠٩-ولا يكون من أتباع الرسول على الحقيقة إلا من دعا إلى الله على بصيرة، قال الله - تعالى -: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾ [يوسف: ١٠٨]، فقوله: ﴿أَدْعُو إِلَى اللَّهِ﴾ تفسير لسبيله التي هو عليها، فسبيله وسبيل أتباعه: الدعوة إلى الله، فمن لم يدع إلى الله فليس على سبيله.
رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه ص٢٣
١١٠-فأين عقل من آثر لذة عاجلة منغصة منكدة - إنما هي كأضغاثِ أحلام، أو كطيف تمتع به من زائره في المنام - على لذة هي من أعظم اللذات، وفرحة ومسرة هي من أعظم المسرات، دائمة لا تزول ولا تفنى ولا تنقطع؛ فباعها بهذه اللذة الفانية المضمحلة التي حُشيت بالآلام، وإنما حصلت بالآلام، وعاقبتها الآلام؟ فلو قايس العاقل بين لذتها وألمها، ومضرتها ومنفعتها؛ لاستحيا من نفسه وعقله، كيف يسعى في طلبها! ويُضيع زمانه في اشتغاله بها! فضلًا عن إيثارها على «ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر!»
رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه ص٣١
١١١-والمتكلِّف الفارغ القلب من الله والدار الآخرة المبتلى بمحبة الدنيا أشق ما عليه الصلاة، وأكره ما إليه طولها، مع تفرغه وصحته وعدم اشتغاله!
رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه ص٣٩

١١٢-فهو سبحانه وتعالى إنما خَلق السموات والأرض، والموت والحياة، وزَيّن الأرض بما عليها ليَبْلُوَ عِباده أيهم أحسن عملًا، لا أكثر عملًا.
و«الأحسن» هو: الأخلص والأصوب، وهو الموافق لمرضاته ومحبته، دُون الأكثر الخالي من ذلك، فهو ﷾ يُحب أن يُتعبّد له بالأرضى له، وإن كان قليلًا، دون الأكثر الذي لا يُرضيه، والأكثر الذي غيره أَرضى له منه.
ولهذا يكون العمَلان في الصورة واحدًا، وبينهما في الفضل -بل بين قليل أحدهما، وكثير الآخر في الفضل - أعظم ممّا بين السماء والأرض.
المنار المنيف ص١٢
١١٣-والقَبول ثلاثة أنواع: قَبول رِضًا ومَحبّة واعتداد ومُباهاة، وثَناء على العامل به بين الملأ الأعلى.
وقَبول جَزاء وثَواب، وإن لم يَقع مَوقع الأوّل.
وقبول إسقاط للعقاب فقط، وإن لم يترتب عليه ثواب وجزاء، كقبول صلاة من لم يُحْضِر قَلبَه في شيءٍ منها، فإنه ليس له من صلاته إلا ما عَقل منها، فإنها تُسقط الفرض، ولا يُثاب عليها.
المنار المنيف ص١٤
١١٤-وقوله: «وزِنة عَرشه» فيه إثبات العرش، وإضافته إلى الرب سبحانه وتعالى، وأنه أثقل المخلوقات على الإطلاق، إذ لو كان شيءٌ أثقل منه لوُزن به التسبيح، وهذا يَردّ على من يقول: إن العرش، ليس بثقيل ولا خفيف. وهذا لم يَعرف العرش، ولا قَدَره حق قَدره.
المنار المنيف ص١٨
١١٥-والأحاديث الموضوعة عليها ظُلمة ورَكاكة، ومُجازفات باردة تنادت على وَضعها واختلاقها على رسول الله ﷺ، مثل حديث: «من صلّى الضحى كذا وكذا رَكعة أُعطي ثواب سبعين نبيًّا» .
وكأن هذا الكذاب الخبيث لم يعلم أن غير النبي لو صلّى عُمر نُوح عليه السلام لم يُعط ثواب نبيٍّ واحدٍ.
المنار المنيف ص٣٤

١١٦-قال الله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ [الأنفال: ٢٤].
وتأمل كيف أخبر عن حيلولته بين المرء وقلبه بعد أمرِه بالاستجابة له ولرسوله، كيف تجد في ضمن هذا الأمر والخبر أن مَن ترك الاستجابة له ولرسوله حالَ بينه وبين قلبه، عقوبةً له على ترك الاستجابة، فإنه سبحانه يُعاقِب القلوب بإزاغتها عن هداها ثانيًا، كما زاغت هي عنه أولًا. قال تعالى: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف: ٥]، وقال: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [الأنعام: ١١٠]. وقال: ﴿ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [التوبة: ١٢٧]. فصرف قلوبهم عن الهدى ثانيًا، لما انصرفوا عنه بعد إذ جاءهم أولًا.
الكلام على مسألة السماع ص١٤
١١٧-وأربابُ الخبرة من أهله يعلمون أن سُكْر السماع للأرواح، أعظمُ من سُكْر الأبدان والنفوس بشرب الرّاح، وأن سُكر الشراب يَستفيق صاحبُه عن قريب، وسُكر السماع إذا تمكَّن من الروح لم يَبقَ لها في الإفاقة نصيب. فلو سألتَ الطباعَ ما الذي خنَّثَها، وذكورةَ الرجال ما الذي أنَّثَها، لقالتْ: سَلِ السماعَ فإنَّه رُقية الزنا وحادِيه، والداعي إلى ذلك ومُناديه.
الكلام على مسألة السماع ص١٨
١١٨-فلغيرِ الله لا لله كم من عيونٍ تَسْكُبُ غَرْبَ مدامعَ، لم تَفِضْ بقطرةٍ منها على سماع القرآن. وكم من زَفَراتٍ متردّدة وأنفاسٍ متصاعدة لم يتصاعد منها نفسٌ عند تلاوة كلام الرحمن، وكم من شوقٍ ووجْدٍ ولهيبِ أحشاءٍ لا يُوجد منه شيء عند ذكر رب العالمين، ولا يثور ويتحرك إلّا عند سماع المُبطِلين.
الكلام على مسألة السماع ص١٩
١١٩-ولهذا شرع الله سبحانه لعباده عند هذين الواردين ما يحفظ به العبد قلبه وإيمانه ودينه أن يستلبه الشيطان ويستفزَّه، فشرع لهم عند المصيبة الصبر والاسترجاع، وعند النعمة سجود الشكر، والتواضع لله، وحمده وشكره، فبذلك تدوم النعمة، كما أن بالصبر والاسترجاع تندفع المصيبة عن القلب أو تَخِفُّ، فعارضَ الشيطانُ وحزبه أمرَ الله، وشرعوا عند المصيبة والنعمة الصوتين الأحمقين الفاجرين: صوت الندب والنياحة والدعاء بالويل والعويل وتوابع ذلك، وصوت الغناء والمزامير وآلات اللهو وتوابع ذلك.
الكلام على مسألة السماع ص٢٦
١٢٠-قال أبو حامد الخلقاني: قلت لأحمد بن حنبل: يا أبا عبد الله! هذه القصائد الرقاق التي في ذكر الجنة والنار، أي شيء تقول فيها؟ فقال: مثل أي شيء؟ قلتُ: يقولون:
إذا ما قال لي ربي ... أما استحييتَ تعصيني
وتُخفِي الذنبَ من خَلْقِي ... وبالعصيان تَأتيني
فقال: أعِدْ عليَّ، فأعدتُ عليه، فقام ودخل بيته وردَّ الباب، فسمعت نحيبَه من داخلٍ، وهو يردِّدُ البيتين.
الكلام على مسألة السماع ص٤٣
١٢١-وقد ركب الله سبحانه الطباع على شهوة الصور المستحسنة، وامتحن العباد بمجاهدة أنفسهم على الصبر وإيثار ما عنده، وشرع لهم من أوراد العبادات في ليلهم ونهارهم ما يستعينون به على محاربة داعي النفس والشيطان، من الصلوات الخمس وتوابعها من الصيام والحج والجهاد الظاهر والباطن، ومع هذا فغلبات الطباع ودواعي الهوى تأبى أن تترك العبد سليمًا.
وأعظم محرِّكات الهوى ودواعيه ثلاثة أشياء تُسْكِر الروح: النظر واستماع الغناء وشرب الخمر، فهذه الثلاثة هي أقوى أسباب العشق والفجور، والنفس الأمَّارة محبة لها مؤثرة لها، فجاء الشيطان إلى النفوس ودعاها من هذه الأبواب الثلاثة.
الكلام على مسألة السماع ص٦٠
١٢٢-فشيطان السماع كامنٌ لها، يجمع قوته للوثوب، فلما عرف أنَّ السماع قد تمكن منها، وتغلغل في أجزائها، وثب عليها وثبةَ الأسد على فريسته، واصطادها فيه أتم صيد، فوالله لو كُشِف الغطاء لبصيرة عبدٍ منورةٍ بنور الإيمان، لرأى أهله بين قتيل وصريع، وجريح وأسير، وهذه أحوالهم وشطحاتهم وكلماتهم تُنبِئك عما حلَّ بهم، فصادقُهم يبكي على صوت الشبابة والدفّ والشعر الذي لعله قيل في محرم، يُسخِط الله طول ليله، ويَرِقّ ويتواجد ويهيم، وتُقرأ عليه الختمة من أولها إلى آخرها، والقلب من هذه الأحوال مُجدِب، والعين من البكاء قحطة. فيا للعقول! أي دليلٍ أبين من هذا؟ أو أي برهان أظهر منه على أن اكتساب القلب للنفاق من هذا السماع أقرب من اكتسابه لحقائق الإيمان .
الكلام على مسألة السماع ص٦١
١٢٣-فيا عجبًا أي إيمان يثمر من سماع أبيات طالما عُصي الله بها في الأرض؟ والأغلب من حال قائلها أنَّه قالها وتغزل بها في محرم، كما هو حال أكثر الشعراء الذين يتغنى بأشعارهم، لا سيَّما وقد غلب على سماع الناس التغزلُ بالذكور، وذكر محاسنهم، وما يدعو إلى ما لعن الله عليه فاعله وغضب عليه، وكان غناء الناس قديمًا كله في الإناث، ثمّ خسفَ الله بعقول المتأخرين وقلوبهم، فصار غناؤهم في الذكور، ووصف محاسنهم وقدودهم وشعورهم وخصورهم. فيا عجبًا! أي إيمان وأي حال صحيح يحدث عند سماع قول المغني المليح الصورة أو المليحة بين تلك المواصيل والدفوف والألحان؟ .
تبَّت يَدَا عاذلي فيه ووَجنتُه ... حَمَّالة الوردِ لا حَمَّالة الحطَبِ
المرجع السابق ص٦٢-٦٣


يتبع

اثبت وجودك .. تقرأ وترحل شارك معنا برد أو بموضوع

امانى يسرى محمد متواجد حالياً   رد مع اقتباس
 
   
الكلمات الدلالية (Tags)
《روائع, , (١٦٠, من, المجموعة, المولد, الحافظ, الفوائد, القدم, ابو, فائدة), كتب
 

   
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
《مسائل قيمة ونوادر مهمة من مسائل الحج والعمرة》 《٢٣٠》مسألة امانى يسرى محمد ملتقى الآداب و الأحكام الفقهية 1 09-15-2025 08:36 AM
من روائع ابن القيم AL FAJR ملتقى الحوار الإسلامي العام 11 11-20-2018 03:01 PM
كتاب Ubuntu Kung Fu ( أكثر من ٣٠٠ حيلة وطريقة ) خالددش ملتقى نظام التشغيل لينكس 4 05-05-2017 02:32 PM
تحميل مجموعه من الكتب الرائعه و القيمه - كتب ابن تيمية و ابن القيم الجوزيه و اخرى Dr Nadia ملتقى الكتب الإسلامية 2 02-21-2013 01:49 AM
روائع الكلام للإمام إبن القيم الجوزية - رحمه الله المؤمنة بالله ملتقى فيض القلم 14 02-15-2013 01:37 PM


   
 

vBulletin® v3.8.7, Copyright ©, TranZ by Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة لموقع العودة الإسلامي
vEhdaa 1.1 by NLP ©2009