![]() |
![]() |
![]() |
|
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
|
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
|
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
#55 |
مشرفة قسم القرآن
![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() |
![]() آية الكرسي، وهي من أعظم آيات القرآن الكريم. يقول الله عزَّ وجل:
﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾ "الله" عَلَمٌ على الذات، الذاتُ الإلهيةُ اسمها (الله) وهو علَمٌ على الذات، أو علمٌ على واجب الوجود، لأن هناك واجبَ الوجود، وممكن الوجود، ومستحيل الوجود، فالله جل جلاله واجب الوجود، والكون ممكن الوجود، ممكنٌ أن يكون، وممكنٌ ألا يكون، وإذا كان فهو ممكنٌ على ما هو كان، أو على غير ما هو كان، لكن الله جل جلاله واجب الوجود. فكلمة (الله) علمٌ على الذات الإلهية، صاحب الأسماء الحسنى، والصفات الفضلى، خالق السماوات والأرض، لا إله إلا هو؛ الرحيم، الكريم، البَرّ، الغفور، الفعَّال لما يريد، القاهر فوق عباده، القوي، المتين، ذو الجلال والإكرام، الحَكَمُ، العدل، فإذا قلت: الله، فكل أسمائه الحسنى منطويةٌ في هذه الكلمة. وجرت الآيات الكريمة أن الله جل جلاله إذا تحدَّث عن ذاته تحدث بضمير المُفْرَد: ﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ﴾ [ سورة طه: 14] الله جلّ جلاله إذا تحدث عن أفعاله تحدث بضمير الجمع : وإذا تحدث عن أفعاله، يأتي ضمير الجمع لأن كل أسمائه الحسنى في أفعاله، فكل أفعاله فيها علمٌ، وفيها حكمة، وعدلٌ، ورحمةٌ، ولُطفٌ، إن تحدث عن ذاته.. ﴿ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى﴾ [ سورة يس: 12] وإن تحدث عن ذاته العليّة: ﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ﴾ [ سورة طه: 14] فـ"الله" صاحب الأسماء الحسنى، والصفات الفضلى، والله علمٌ على الذات، والله واجب الوجود.. ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾ فالإله هو المعبود، والإنسان مَن يجب أن يَعبد؟ أن يعبد الذي خلقه، فالله هو الخالق، ومَن يجب أن يعبد؟ أن يعبد الذي يعلم سرَّه ونجواه، فالله يعلم السر والنجوى، من هو الذي ينبغي له أن يُعبَد؟ يُعبَد مَن يستمع إليه إذا ناجاه، الله هو السميع العليم، ومن يجب أن يُعبَد؟ يُعبَد من هو على كل شيءٍ قدير، فالله على كل شيءٍ قدير، ومَن ينبغي له أن يُعبَد؟ يُعبَد الرحيم الذي يحبُّه ويرحمه، فإذا قلت: لا إله إلا الله، أي لا معبود بحقٍ إلا الله، أي لا يستحق العبادة إلا الله، ليس لك أن تَعبُد إلا الله، أما إذا توجهت إلى غير الله، فتوجَّهت إلى لا شيء: ﴿ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ ﴾ [ سورة فاطر: 14 ] أسماء الذات وأسماء الأفعال : قال تعالى: ﴿ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾ الحقيقة (الحي) مِن أسماء الذَّات، وأسماء الذات لا نقيض لها، والله عزَّ وجل يعطي ويمنع، وهذه من أسماء الأفعال، ويرفع ويخفض، فمن أسماء الأفعال، وكذلك يعز ويذل، لكن الحي ليس لها نقيض، فالله عزَّ وجل حي على الدوام، فأسماء الله عزَّ وجل التي لا نقيض لها أسماء الذات، والتي لها نقيض فأسماء الأفعال، والله عزَّ وجل حي، وتقول: فلان حيٌ يُرْزَق، ولا يستطيع إنسان على وجه الأرض أن يسمي نفسه (الله) ولكن هناك إنسانٌ يقال له: حيٌ يرزق، والله عليم، وهناك مَن يقول: أنا عالِم، والله رحيم، وهناك من عباده مَن يرحم، فإذا كانت حياةُ الله عزَّ وجل حياةً أزليةً أبديةً، لم يسبقها عدم وليس بعدها عدم، فحياةُ اللهِ غيرُ حياتنا، والإنسان إذا كان حياً فقد سبقه عدم: ﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ﴾ [ سورة الإنسان: 1] فالإنسان سبقه عدم، وسوف ينتهي إلى عدم: ﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴾ [ سورة الرحمن: 26-27 ] فإذا قلنا: فلان حي، فحياته ليست كحياة الله عزَّ وجل، وكلمة "حي" تسبق في الذهن أيَّ اسمٍ آخر، فهو حيّ عليم، وهو حيّ قدير، وأول اسمٍ يسبق إلى الذهن أنه حيّ، هو حيّ ومصدر حياة الخلق، وحياتنا منه، واستمرار حياتنا منه، فالوردة فيها حياة، فإذا صنع إنسانٌ وردةً من مواد صناعية لا يوجد فيها حياة، ويضعون في بعض الواجهات شكلَ امرأة لبيع الثياب والألبسة، ولكن هذه بلا حياة، فهي من الشمع، والمرأة الحقيقية فيها حياة؛ تتكلم، وتفكِّر، وتتألَّم، وتفرح، وتعبّر عن ذاتها، فالإنسان فيه حياة، والوردة فيها حياة. ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ ﴾ هو حيٌ، ومصدر حياة المخلوقات، ومصدر استمرار حياتهم، والموت يخلقه الله عزَّ وجل، الموت لا علاقة له بالمرض، فحينما ينتهي أجل الإنسان يموت، فهو: ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾ [سورة الملك: 2] الله عز وجل حيٌ قيوم يقوم على العناية بخلقه لأنه رب العالمين : قال تعالى: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾ حيٌ قيوم، يقوم على العناية بخلقه، ومما يؤكد ذلك.. ﴿ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ﴾ أي إشراف دائم؛ متابعة، ومراقبة، ومحاسبة، ومُعالجة، واهتمام، وعطاء، وأخذ، وتأديب، وإكرام، ومتابعة، وكل مؤمن بحسب معاملة الله له، كأن الله عزَّ وجل ليس عنده مخلوق إلا هذا الإنسان، وهو مع كل الخلق، ومع كل المخلوقات، ومع كل البشر، ومع كل من تحت الشمس والقمر. حيٌ قيوم، يقوم على العناية بخلقه، لأنه رب العالمين، والإنسان أحياناً يأتيه خاطر لا يعلمه أحدٌ إلا الله، ويدفع الثمن، ويعالجه الله عزَّ وجل على خاطر أحياناً، فقيوم السماوات والأرض يقوم على إدارتها، والعناية بها، وتربيتها، وإمدادها، و.. ﴿ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ﴾ هناك معيَّة عامة ومعية خاصة : إنه حيٌّ باقٍ على الدوام، وحيٌّ قيّوم، وهو معكم أينما كنتم، فمعكم بعلمه: ﴿ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [ سورة الأنفال: 19] ومعكم بالنصر، والتأييد، والحفظ، والتوفيق، وهناك معيَّة عامة ومعية خاصة، والمعية العامة أنه مع المخلوقات بعلمه، والمعية الخاصة بالإكرام، والتأييد، والحفظ.. ﴿ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ ﴾ كل هذا الكون له، ولا تستطيع جهةٌ على وجه الأرض أن تفعل شيئاً إلا بإذنه.. ﴿ لَهُ ﴾ لام المُلك؛ فله المُلكُ خلقاً، وتصرُّفاً، ومصيراً، أما أنت كإنسان فقد تملك بيتاً ولا تنتفع به، إنها مُلْكِيَّة ناقصة، فالبيت لك ولكنه مؤجَّر قبل السبعين، فأجرته مئة ليرة في الشهر، تملكه ولا تنتفع به، وقد تنتفع به ولا تملكه، وقد تملكه، وتسكنه، وتنتفع به، فصدَر قرار تنظيم، فأخذتَ عشرَ قيمته، فذهبَ من يدك، إنها ملكية ناقصة، أما إذا قلنا: ﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾ فإنه يملك الكون؛ إيجاداً، وتصرُّفاً، ومصيراً، فقد تبيع دولة طائرة، وبعد أن باعتها أصبحت هذه الطائرة بيد مَن اشتراها، غير أنَّ الله سبحانه وتعالى مُلكيته دائمة: ﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾ [ سورة الزمر: 62] فأمرُ هذه الطائرة بعد أن بيعَت ليس لصانعها بل للذي اشتراها، لكن الله عزَّ وجل له الخلق والأمر، وهو الخالق وهو الآمر، ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾ السماوات والأرض تعبيرٌ قرآني عن الكون : قال تعالى: ﴿ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾ لا يمكن أن يقع شيءٌ في مُلكه إلا بإرادته، لذلك قالوا: كل شيءٍ وقع أراده الله، وكل شيءٍ أراده الله وقع، وإرادة الله متعلقة بالحكمة المُطلقة، وحكمته المطلقة متعلقةٌ بالخير المطلق، فالأمر بيده.. ﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾ السماوات والأرض تعبيرٌ قرآني عن الكون، فالكون كله له، والكون ما سوى اللهِ، أيْ أيّ مكانٍ في الأرض؛ ولذلك فالموَحِّد مرتاح، وهو سعيدٌ سعادة كُبرى، والموحد يرى أنه لا إله إلا الله، ولا يرى مع الله أحداً، ويرى أن يد الله وحدها التي تعمل، والموحِّد لا يحقد، ولا يتألم، وليس عنده إحباط، ولا سَأَم، ولا ضَجَر، ولا يأْس، ولا خُذلان، إنه موحِّد، والأمر بيد الله، وله مُلك السماوات والأرض. فلو دققنا، ودخلنا في التفاصيل، فقُطرُ الشريان التاجي بيده، أحياناًَ يضيق، وأحياناً يبقى متّسعاً، فإذا كان متسع فأنت مرتاح، وعمل الكبد بيده، والدَسَّامات بيده، وعمل الكليتين بيده، والأعصاب بيده، ونمو الخلايا بيده، فأحياناً يفلتها فيكون السرطان، ويضيق الشريان، فلا بد من قسطرة، أو عملية القلب المفتوح، ويتعطل الكبد، فيُزرَع بستة ملايين، والنجاح ثلاثون في المئة، فالإنسان مُحاط باحتمالات مخيفة. نحن جميعاً في مُلك الله وفي قبضته : قال تعالى: ﴿ لَهُ ﴾ أنت في ملكه، وأنت في قبضته، وأجهزتك وأعضاؤك بيده.. ﴿ لَهُ ﴾ زوجتك بيده، وعملك بيده، ورزقك، ومَن حولك، ومَن هم فوقك، ومَن هم دونك كلهم بيده، فهو الذي يعطي وهو الذي يمنع، سبحانه يرفع ويخفض، ويعز ويذل، فإذا أعطى أدهش، وهناك رجل يعد خامس رجل ثري في تركيا، ثروته بألوف الملايين، كل أمواله بيوت بأجمل منطقة بتركيا، أبنية فخمة، وهو يقول متبجِّحاً: سأسكن كل إنسانٍ في بيت، لقد جاء الزلزال بأمر الله فلم يُبقِ له من أبنيته كلِّها بيتاً واحداً، فسكن تحت الخيمة، وأمسك الصحن ليأكل الطعام الذي جاءت به الجمعيّات الخيرية، وقد صوِّر ونشر هذا، خامس غني سلبه الله عزَّ وجل كل شيء في ثوانٍ معدودات.. له شارع على البحر في ( أزمير ) بأكمله؛ بأبنيته الشاهقة، وبمركباته الأنيقة، فابتلعه البحر، وبعد حين نزلوا بغواصة وصوروا، فإذا هذا الشارع كما هو في قاع البحر، فالبناء مثلما هو، وكذا الطوابق، حتى بالتدقيق؛ الأنترفون، والاسم، والسيارة بجانب البيت في قاع البحر.. الشفاعة بالمعنى الواسع : قال تعالى: ﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ﴾ المعنى الواسع جداً: مَن يستطيع أن يجمع شيئين؟ الشفع هو الزوج، أي يجمع هذا العقرب مع هذا الإنسان ويلدغه، مَن؟ إلا بإذنه، أبسط مثال: شخص في أثناء السفر ينام في فلاة، فيها عقارب، لا يستطيع العقرب أن يلدغ نائماً إلا بإذن الله، ولا أن تدخل رصاصة إلى إنسان إلا بإذن الله، شظية طائشة لا تجد هذا عند الله عزَّ وجل، بل شظية مسوَّمة عليها اسم مَن تقتله، " لكل شيءٍ حقيقة، وما بلغ عبدٌ حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه ".. ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ ﴾ بالمعنى الواسع: إنّه لا يمكن أن يجتمع عنصران في الكون إلا بإذن الله، فإنسان ينالك بأذى وليس عند الله علم هذا مستحيل، ولكن بعلمه، وإرادته، وحكمته، وعدله، ورحمته، فلذلك " لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت": ﴿ مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِك فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [ سورة فاطر: 2 ] الآية التالية هي آية التوحيد : قال: ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ﴾ (عنده) في ملكه.. ﴿ إِلَّا بِإِذْنِهِ ﴾ إذا نجح الطبيبُ في علاج ابنك، يكون اللهُ قد سمح له، وألهمه، ومكَّنه، وأطلعه على المرض، ووفقه في تشخيصه، ووفقه في الدواء، وسمح الله للدواء أن يفعل فعله.. ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ﴾ هذا التوحيد، هذه آية التوحيد، فأول شيء؛ نحن في ملكه، فالحركة بأمره، نحن في ملك الله؛ الأرض، والسماء، والبحار، والأطيار، والأسماك، والأراضي، والنباتات، والرياح، والأعاصير، والأمطار، والسُحُب، والبراكين، كل شيء بيده، والآن الحركة، فلان ضرب فلاناً، حركة، لا يستطيع مخلوق أن يفعل شيئاً مع مخلوق إلا بإذن الله، لا خيراً ولا شرّاً، فحينما ترى إنساناً يُردي إنساناً فهذا بأمر الله، أو يكرمه فكذلك بأمر الله. الشفاعة بمعناها المحدود بإذن الله عزَّ وجل : الشفع هو الزوج، لا يلتقي عنصران في الكون إلا بإذن الله، والمعنى الضيق الشفاعة التي ذكرها الله عزَّ وجل: ﴿ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ﴾ [ سورة يونس: 3 ] فهو الذي يشفع لمن ارتضى، والشفاعة بمعناها المحدود بإذن الله عزَّ وجل، أي إن النبي لا يشفع إلا من بعد إذن الله عزَّ وجل.. ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ﴾ (ما بين أيديهم) أي أمامهم.. ﴿ وَمَا خَلْفَهُمْ ﴾ أيْ وراءهم، أو ( ما بين أيديهم ) عالم الشهادة، و( ما خلفهم ) عالم الغيب، فهذا الإنسان وُلِد، تُرى ماذا سيكون؟ تاجراً، أم عالماً، أم مصلحاً اجتماعيّاً، أم مجرماً، أيموت إعداماً، أم يموت بحادث، أم على فراشه؟ أينجب أولاداً.. ﴿ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ﴾ هو عالم الشهادة أي المشهود، وعالم الغيب، فنحن عندنا غيب الحاضر، وغيب الماضي، وغيب المستقبل، وغيب المستقبل ما سيأتي، وغيب الحاضر ما كان بعيداً.. ﴿ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ﴾ عالم الشهادة.. ﴿ وَمَا خَلْفَهُمْ ﴾ عالم الغيب، فهو الذي يعلم، ولذلك قال الإمام علي: " علم ما كان، وعلم ما يكون، وعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون ". كلُّ شيءٍ يفعله الإنسان هو من إلهام الله له : قال تعالى: ﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ﴾ كل شيء تسمعونه عن اختراع، واكتشاف، وقفزة في عالم المجهول، هذا كله مما سمح الله به، قال الله عزَّ وجل: ﴿ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ﴾ [ سورة النحل: 8 ] ثم قال في آخر الآية: ﴿ وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [ سورة النحل: 8 ] عُزِيَ صنعُ الطائرة إلى الله، هو الذي ألهم الإنسان صنع الطائرة، وألهم الإنسان اكتشاف وقودها، فإذاً كلُّ شيءٍ يفعله الإنسان هو من إلهام الله له. الآن يقال لك: عرفنا جنس المولود ذكراً كان أو أنثى.. ﴿ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ﴾ فقد شاء لهم ذلك، أما الآية: ﴿ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ﴾ [ سورة لقمان: 34] ما قال: يعلم مَن في الأرحام، قال: ما، (ما) تشمل كل المعلومات المبرمجة التي في النويَّة، لأن هناك خمسة آلاف مليون معلومة مبرمجة، هذه يعلمها الله، سمح لهم أن يعرفوا ذكراً كان أو أنثى عن طريق الأجهزة، أي إن كل شيء سمعتموه عن كشف علمي، واختراع، وتفوّق، فهذا مما سمح الله به، نقلوا الصورة من قارة إلى قارة، وهذا مما سمح الله به، ونقلوا الصوت، واخترعوا طائرة، واخترعوا مركبة وأرسلوها إلى الفضاء، وغاصوا في البحار، واخترعوا أجهزة حديثة، كل شيءٍ علمه الإنسان هو مما سمح الله له به، وانتهى الأمر. الكون بكامله لا يكفي أن يخلق حمضاً أمينيّاً واحداً مصادفةً : قال تعالى: ﴿ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ﴾ وفي آية ثانية: ﴿ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا ﴾ [سورة الإسراء: 85] فلدينا حموض أمينية، ويحتاج حمض أميني واحد كي يأتي مصادفةً إلى حجم يزيد عن حجم الكون، فتركيب الحمض الأميني معقَّد، وهو الحمض الأساسي في الإنسان، هل من الممكن أن يكون هذا الحمض مخلوقاً مصادفةً؟ فأنت لو وضعت عشرة أرقام في كيس، ثم سحبتها، فاحتمالُ خروجِ هذه الأرقام بالتسلسل هو واحد من عشرة آلاف مليون، عشرة أصفار، واحد وبعده تخرج تسعة، ثم يأتي الواحد، واحد من عشرة، وبعد الواحد اثنان، واحد من مئة، بعد اثنين ثلاثة، واحد من ألف، فعندنا عشرة أصفار، الستة مليون، والأربعة عشر ألف مليون، أي أن تسحب عشر أرقام متسلسلة احتمالُها حالة واحدة من عشرة آلاف مليون حالة، وتركيب الحمض الأميني معقد، وقالوا: الكون بكامله لا يكفي أن يخلق حمضاً أمينيّاً واحداً مصادفةً. فلا تدهش إذا سمعت عن كشفٍ علمي، بل يجب أن توقن يقيناً قطعياً أن الله سمح لهم أن يعرفوه، لحكمةٍ أرادها الله عزَّ وجل. الكرسي والعرش أسلم تفسير أن نفوض أمرهما إلى الله : قال تعالى: ﴿ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ﴾ وهذا الذي شاءه قليل جداً: ﴿ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا ﴾ [سورة الإسراء: 85] وهناك مَن يؤلِّه الإنسان مع أنّ الإنسان عبد فقير، قال بعض العلماء المخترعون: العبقرية تسعة وتسعون بالمئة منها عَرَق ـ أي تعب ، وواحد بالمئة إلهام، وهذا الإنسان حينما صدق في كشف هذه الحقيقة التي سمح الله بها، لأنّ الله لا يعطي الشيء بسهولة، ولكن بصبر شديد، وبإصرار عجيب، فأيّ مُخْتَرَع أو أي كشف علمي لا ينبغي أن يزلزل الإنسان، وهذه الآية تغطيه.. ﴿ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ﴾ فالكرسي والعرش، أسلم تفسير: أن نفوض أمرهما إلى الله، لأن هناك آيات لا تزيد عن أصابع اليد تتعلق بذات الله. آياتٌ لا تزيد عن أصابع اليد متعلقةٌ بذات الله تعالى : كيف أنه يأتي: ﴿ وَجَاءَ رَبُّكَ ﴾ [ سورة الفجر: 22 ] وكيف أن: ﴿ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ﴾ [ سورة الفتح: 10 ] وكيف أنه: ﴿ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ﴾ [ سورة المائدة: 116] آياتٌ لا تزيد عن أصابع اليد متعلقةٌ بذات الله تعالى، أسلم تفسير أن نَكِلَ أمرها إلى الله، فالاستواء معلوم والكيف مجهول، وهناك من أوَّلها تأويلاً يليق بكمال الله، والأوْلى أن نفوِّض، فإن لم نفوض نؤوِّل بما يليق بكمال الله، أما أن نجسِّد، فهي عقيدة فاسدة، وأما أن نُعَطِّل، فالتعطيل عقيدة فاسدة، فإذا أنكرنا أن لله سمعاً، فهذا تعطيل، وإذا قلنا: إذا كان ثلث الليل الأخير نزل ربكم إلى السماء الدنيا، فالخطيب نزل درجة، وقال: ينزل كما أنزل، فهذا تجسيد، والتجسيد عقيدة فاسدة، والتعطيل عقيدةٌ فاسدة، والآيات القليلة التي لا تزيد عن أصابع اليد المتعلقة بذات الله فالأوْلى أن نفوِّض أمرها إلى الله، أو أن نؤوِّلها تأويلاً يليق بكمال الله، والتفويض أولى. قال بعض العلماء: الكرسي علمه.. ﴿ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ ﴾ أي علمه.. ﴿ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾ أي لا يعجزه حفظهما، ولا يتعبه حفظهما، وما مسنا من لغوب، اللغوب التعب. فضل آية الكرسي : قال تعالى: ﴿ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾ هذه الآية أيها الأخوة هي آية الكرسي، هناك أحاديث كثيرة جداً في فضلها، والإنسان يقرؤها قبل أن يسافر، وقبل أن يستلقي إلى فراشه لأنها مُرِيحة.. ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ﴾ أحياناً ينشأ خطأ في البيت فيحترق البيت كله وهو نائم، فإذا نِمتَ، فأنت في رعاية الله. وهذه الآية تقرأ قبل السفر، وعند الدخول إلى البيت، وعند الاستلقاء للنوم، وتعطيك التوحيد، والأمر بيد الله، وكان سيدنا رسول الله إذا سافر يقول كما روى عنه أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَافَرَ فَرَكِبَ رَاحِلَتَهُ قَالَ: بِإِصْبَعِهِ وَمَدَّ شُعْبَةُ إِصْبَعَهُ قَالَ: ((اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ اللَّهُمَّ اصْحَبْنَا بِنُصْحِكَ وَاقْلِبْنَا بِذِمَّةٍ، اللَّهُمَّ ازْوِ لَنَا الْأَرْضَ وَهَوِّنْ عَلَيْنَا السَّفَرَ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ وَكَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ )) [ من كنز العمال عن جرير] لا يوجد في الكون إلا جهة واحدة؛ هي معك في السفر، ومع أهلك وأولادك في بيتهم: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾ ولعلك في الشام المباركة إذا دخلت إلى مئة بيت تجد تسعين بيتاً فيها آية الكرسي معلَّقة، طبعاً بخيوط من الذهب وإطار جميل، ولكن الأفضل من ذلك ـ علقها فلا مانع ـ ولكن أن تفقه معناها، وأن توحِّد الله عزَّ وجل، وأن تطمئن لله عزَّ وجل، ويجب أن تكون في قلبك وتزين بها جدار بيتك، واجعلها في البيت فهي مفيدة جداً، ولكن الأولى أن تعيش معانيها، وأن تكون في مستواها، وأن تقرأها وأنت فاهم لمضامينها. |
![]() |
![]() |
![]() |
#56 |
مشرفة قسم القرآن
![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() |
![]() لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)سورة البقرة
الإكراه في الدين يتنافى مع سعادة الإنسان : أولاً: إنّ الإنسان قَبِلَ حمل الأمانة، وقد أعطى اللهُ الإنسانَ مقوِّماتِ الأمانة، ومن أهم هذه المقومات حريّة الاختيار، فما دام الإنسان حراً في اختياره فلا يمكن أن يكون ثمّةَ إكراهٌ في الدين، لا يمكن أن يكون إكراهٌ في الدين، لو أن الله أجبر عباده على الطاعة لبطل الثواب، ولو أجبرهم على المعصية لبطل العقاب، لو تركهم هملاً لكان عجزاً في القدرة، مستحيل أن يُجبر الله عباده على الدين، لو أجبرهم لما سعدوا به، لأن الله عزَّ وجل بنى هذا الدين على المَحْبوبيَّة، الله عزَّ وجل لا يريدك أن تؤمن قسراً، ولا إكراهاً، ولا إرغاماً، يريدك أن تؤمن طَوْعاً، حُباً، شَوقاً، بمبادرةٍ منك، بإقبالٍ منك على الله، لذلك الإكراه في الدين يتنافى مع سعادة الإنسان، خلقك ليسعدك، وإنَّك لن تَسعد إذا كنت ديِّناً مكرهاً، لن تسعد بدينٍ قسري، إنك لا تسعد إلا بعملٍ طوعي. لو أمسك شخصٌ حاجة ثمينة بيده، وجاء إنسان معه مسدس، وقال له: أعطني هذه الحاجة وإلا قتلتك، فأعطاه إياها، هذا الذي أعطى هذه الحاجة هل يشعر أنه قدَّم هديةً؟ على أنه عمِلَ صالحاً؟! إنّه مقهور يمتلئ غيظاً، أما لو جئت إلى إنسان وقدَّمت له هديةً، فكلما التقيت به تألق وجهك، لأنك فعلتَ معه معروفاً، فحينما تجبَر على العمل سقطت قيمة العمل، وحينما تفعل هذا العمل اختياراً، وطواعيةً، عظمت قيمة العمل، فالاختيار يثمِّن للعمل و يلغي السعادة النابعة من الدين. لذلك شاءت حكمة الله أن يكون هذا الدين في بداياته ضعيفاً، فماذا يفعل النبي؟ ليس عنده دنيا يُغري بها، وليس عنده قوة يُخيف بها، ومع ذلك يؤمن به أصحاب النبي إيماناً طوعياً عن رغبةٍ وحُبٍّ، هذا الإيمان صحيح ورائع، لأنه جاء بمبادرة شخصية، وجاء باختيارٍ طيب.. ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾ هذه (لا) نافية للجنس، إذا سألَك شخص: هل عندك رغيف خبزٍ؟ إذا قلت: ليس عندي رغيف خبز، لو أردت أن تناقشه، قد يكون عنده رغيفان، لكنه ماذا نفى؟ ليس عندي رغيف خبز، نفى الرغيف الواحد، أما إذا قال لك: لا رغيف عندي، فهذه نافية للجنس، لا تنفي الرغيف الواحد، بل تنفي جنس الخبز، تنفي القمح، وتنفي مشتقات القمح، ونفي الجِنْس مِن أبلغ النفي. الدين هو الرشد وخلاف الدين هو الغي : مثلاً، عندنا (لا) التي تعمل عمل (ليس)، فتقول: لا طالبٌ في الصفِ، هذه "لا" تعمل عمل ليس، فتقول: بل طالبان، ماذا نفيت بها؟ نفيتَ المفرد، أما إذا قلت: لا طالب في الصف بل طالبةٌ، فقد نفيتَ جنس الذكور، وكلمة لا طالبٌ في الصف نفيت بها المنفرد، أما لا طالبَ في الصف فنفيتَ جنس الذكور، ولا تنس أن كلمة التوحيد لا إله إلا الله، فأبلغ أنواع النفي نفي الجنس.. ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾ الدين بين لا يحتاج لإكراه أي كل أنواع الإكراه، هناك إكراه حاد، إن لم تؤمن بهذا تُقتَل، هذا إكراه حاد، وهناك إكراه أقلّ منه، أي إنْ لم تؤمن فليس لك ولا ميِّزة، مثلاً، هناك أنواع منوَّعة من الإكراهات، كل أنواع الإكراهات القاسية، والحادة، والمخففة، والمباشرة، وغير المباشرة، والصريحة، وغير الصريحة، والمعلنة، والمبطنة غير موجودة في دين الله. ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾ ولكن ما هو الدين؟ قال تعالى: ﴿ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ﴾ إنّ الدين هو الرشد، وخلاف الدين هو الغي، وهذه حقيقة أيها الأخوة، هناك طريق الحق وطريق الباطل، ولا ثالث بينهما: ﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ﴾ [ سورة القصص: 50 ] حياة المسلم منضبطة وفق منظومة قيَم وسلسلة مبادئ : إن لم تكن على الحق ـ لا سمح الله ولا قدَّر ـ فأنت على الباطل قطعاً، وإن لم تستجب لله فأنت مستجيبٌ لغير الله ـ قطعاً ـ وعندنا شيء في الدين اسمه الاثنيْنيَّة، أي هناك حق وباطل، خير وشر، صدق وكذب، إخلاص وخيانة، إنصاف وظلم، إقبال وإدبار، تألُّق وانكماش، فإن لم تكن على أحد الخطين فأنت على الثاني.. الدين هو الرُشْد، الدين كما قال الله عزَّ وجل: ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾ [ سورة الإسراء: 9 ] في صحتك، في زواجك، في حرفتك، في علاقاتك، في جدَّك، في لهوك، في إقامتك، في سفرك، حياة المسلم رائعة، منضبطة وفق منظومة قيَم، وفق سلسلة مبادئ.. ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ﴾ قدِّم لمئة ألف إنسان نموذجَ المسلم يرمقونه بأبصارهم، قدِّم لهم نموذج المنحرف يزورّون عنه، الناس يكرهون الكذاب، يكرهون المنافق، يكرهون الدجال، يكرهون المؤذي، يكرهون المغتاب، يكرهون النمَّام، يكرهون المتغطرس المتعالي، يحبون المتواضع، الرحيم، المنصف، الصادق، الأمين، العفيف. في كل حقل هناك رشد وهناك غَيّ : قال تعالى: ﴿ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ﴾ الدين هو الرشد، هناك معنى آخر: إذا قُدِّم لإنسان ـ فرضاً ـ وهو جائع طعامٌ طيبٌ ونفيسٌ، وقُدِّم له صحنٌ آخر فيه لحمٌ متفسخ، تفوح رائحته النتنة، فهل هناك حاجة أن تكره هذا الإنسان على أكل الطعام الطيب؟ يتّجِه إليه بفطرته، ضع صحن طعامٍ طيب وطعام خبيث، وقل له: أنا لن أكرهك على أن تأكل الطعام الطيب، طبعاً سيأكله، وسيشكرك عليه، وسيذوب محبةً لك. هناك معنى آخر، فضلاً عن أن الله لا يقبل مؤمناً مقهوراً، ولا مؤمناً مكرهاً، ولا صلاةً فيها ضغطٌ وإكراهٌ، بالمقابل دين الله بتألُّقه، ومنطقيته، وكماله، وكيف أنه قدَّم تفسيراً رائعاً للكون، وكيف أن فيه قيَماً، واللِه من أحد ألد أعداء المسلمين في بلد غربي بعيد قال في احتفال: إن القيم التي نؤمن بها هي نفس القيم التي جاء بها الإسلام، هكذا قال. الإسلام عظيم. ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ﴾ (الغي) الانحراف، الغي الطغيان، الغي الظلم، الرشد أن تنسجم مع فطرتك، وأن تنسجم مع الحق، وأن تنسجم مع علَّة وجودك وغاية وجودك، هذا هو الرشد. طالب في المدرسة، ما هو الرشد؟ أن يدرس، وما هو الغي؟ ألاّ يدرس، أن يذهب إلى دور اللهو هذا هو الغي، وأن يقبع وراء كتابه هذا هو الرشد، والتاجر ما هو الرشد له؟ أن يربح، الغي أن يكذب على الناس، وأن يظلمهم، في كل حقل هناك رشد وهناك غَيّ.. ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ ﴾ طاغٍ، والمؤمن يكفر بهؤلاء الذين يطغون، فالطاغي قوي، لكنّ المؤمن كفَر بالطاغوت وآمن بالله. لن تقطف ثمار الدين إلا إذا آمنت بالله وكفرت بالطاغوت : قال تعالى: ﴿ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ ﴾ أي يكفر بالكفر، يكفر بالذي يستخدم قوته لإمتاع شهواته، بالذي يقهر الناس.. ﴿ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ﴾ أي إنك حينما تؤمن بالله تكفر بالطاغوت، المشكلة أيها الأخوة هي التداخل، فهو مؤمن ولكنّه مع أهل الدنيا، ومع الأقوياء، ومع الأغنياء، في فسقهم وفجورهم، لا تسخو نفسه أن يدعهم، لن تقطف ثمار الدين إلا إذا آمنت بالله وكفرت بالطاغوت، لا بدّ أن تكفر بالكفر حتى تُفْتَح لك أبواب السماء.. أنتَ بعيدٌ عن اللهِ ما دمت تعقد الأمل على طواغيت الأرض؛ الفسَّاق والفجار، والذين جاؤوا بالمذاهب الوضعية، والذين أرادوا الدنيا وغفلوا عن الآخرة، الذين أرادوا الشهوة وغفلوا عن القيَم، الذين أرادوا المال وغفلوا عن الأخلاق، هؤلاء كلهم طواغيت، قد يكون الإنسان محاطاً بطواغيت، يقول لك: لي جار مادي، لي عم لا يحلل ولا يحرِّم، كل إنسان طغى وبغى ونسي المبتدى والمنتهى فهو طاغوت، فما دمت متعلِّقاً بأهل الكفر، علماً أنهم قد يكونون أقوياء، وقد يكونون أغنياء، تعقد الأمل عليهم، ترجو عطاءهم، ترجو ودَّهم، تحذر من غضبهم، تحسب لهم ألف حساب، ما دمت مؤمناً بهم، متعلقاً بهم، تعلِّق عليهم الآمال، ترجو الخير منهم، فالطريق إلى الله غير سالك.. على الإنسان أن يؤمن بالله إلهاً في السماء وإلهاً في الأرض : حتى في تاريخنا القديم والحديث تجدنا متعلقين بالأقوياء، ونظن أن اتصالنا بهم رحمة لنا، وأن تقليدهم رُقي، وأن إرضاءهم ذكاء، وأن التعلق بوعودهم أمل، هؤلاء لا يعطوننا شيئاً، إلا أنهم يستغلوننا، وتجربتنا مع العالم الغربي منذ خمسين سنة ماضية، فماذا أخذنا منهم؟ لم نأخذ شيئاً، أخذوا منا كل شيء، ولم يعطونا شيئاً أبداً.. ﴿ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ ﴾ كل جهة طغت، وبغت، واستكبرت، واستغلَّت، وقهرت، وأرادت الدنيا، وكفرت بالآخرة، أرادت العِلمانية وكفرت بالدين، كل قوةٍ جبارة عاتيةٍ طاغيةٍ ينبغي أن تَنْفِضَ يديك منها، أما إذا كنت متعلقاً بها، راغباً بما عندها، ترجو رضاها، تخشى غضبها، تعلق الآمال على رضاها، فالطريق إلى الله ليس سالكاً.. يجب أن تؤمن به خلاَّقاً، وأن تؤمن به فعَّالاً، وأن تؤمن به متصرِّفاً، وأن تؤمن به إلهاً في السماء وإلهاً في الأرض، وأن تؤمن أن الأمر كله بيده، وأنه إذا شاء شيئاً فعل، ووقع: ﴿ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلَا مَرَدَّ لَهُ﴾ [ سورة الرعد: 11 ] من تمسَّك بالقرآن والسُّنة وعضّ عليهما النواجذ فهو متمسك بعروةٍ وثقى : كل شيءٍ بيده، بيده مقاليد السماوات والأرض، هذا هو الإيمان، فيجب أن تكفر بالطاغوت، وأن تؤمن بالله، كم مسلم في العالم يرتكب المعاصي والآثام تقرباً إلى أهل الدنيا، تقرباً إلى أهل الباطل، تقرباً إلى الطواغيت.. ﴿ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ﴾ (العروة) هذه التي تمسكها، تتعلَّق بها، ترجو أن تبقى متَّصلة، فأنت حينما تتمسك بالشريعة، وتتصل بالله عزَّ وجل، ليس في الكون كله جهةً تستطيع أن تقطعك عن الله: ﴿ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [ سورة فاطر: 2 ] ﴿ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ﴾ أي إذا تمسَّكت بالقرآن والسُّنة وعضضت عليهما النواجذ فأنت متمسك بعروةٍ وثقى. سمعت أن لبعض الشاحنات عروة في نهايتها من أجل أن تجرَّ مقطورة، قال: هذه العروة لها اختصاص نادر، وهي مصنَّعة من أدقّ أنواع الفولاذ المطرَّق، لأن المقطورة تزن عشرين طناً، ولو أن هذه العروة تفلَّتت لوقع حادث مخيف، فهذه العروة التي توضع في نهاية الشاحنات لها صناعة متميِّزة، ومن أمتن أنواع الفولاذ المُطَرَّق، أي معالج بالطرق لا بالصب ولا بالسحب، فهذه عروة وثقى. الطاغوت هي كل جهة تنكر وجود الله عزَّ وجل وتؤثر الدنيا : ربنا عزَّ وجل قال: أنت إذا كفرت بالطاغوت، أيُّ طاغوت؟ كل جهة تنكر وجود الله عزَّ وجل وتؤثر الدنيا، تطغى وتبغي.. إن آمنت بالله آمنت بكتابه، إن آمنت بالله صدقته، إن آمنت بالله صدقت نبيَّك، إن آمنت بالله تقرأ الحديث الشريف وكأنه من عند الله عزَّ وجل، قال الله لك: ﴿ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾ [ سورة الذاريات: 58] الدين هو حبل نجاة للإنسان كأن هذا الدين حبل نجاة، أحياناً يلقى لإنسان حبل لكنه متين، يمسك به فينجو، أحياناً إنسان في حالة صعبة تأتيه طائرة هليكوبتر فتمدّ له حبلاً، يمسك به نجا، ترفعه شيئاً فشيئاً فينجو. مهما كنت في خطر، مهما كنت في خطرٍ شديد، إذا تمسَّكت بالأمر الإلهي في القرآن، والأمر النبوي في السنة، كأنك تمسكت بالعروة الوثقى لا انفصام لها، نجوت. ﴿ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ يسمع قولك، وعليمٌ بحالك.' أشد الناس شقاءً من خرج من ولاية الله : ﴿ اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ﴾ ( سورة البقرة الآية: 257 ) ﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا ﴾ لا بدَّ من أمثلة؛ تصور أباً متفرغاً لابنه، عالمٌ، غنيٌ، قويٌ، مربٍّ، مثقف ثقافة تربوية عالية، إيمانه قوي، قوي مادياً، عالِم، له ابن متفرِّغ له، يسأله عن صحته، عن طعامه، عن شرابه، عن هندامه، عن وظائفه، عن بيته، عن مدرسته، عن أصدقائه، يجلس معه، ينبِّهه، يذكره، يقوم اعوجاجه، يسأله، يصحح خطأه، أبٌ متفرِّغٌ لابنه.. انظر إلى هذا المثل، الله عزَّ وجل وليُّ الذين آمنوا، يرعاهم، يؤدبّهم، يبشِّرهم، يخيفهم، يصحح مسارهم، قد يشعرهم بالخوف ليأتوا بابه طائعين، قد يشعرهم بالأمن ليشكرهم على طاعتهم له، ولي، وليٌ كامل، لذلك أشد الناس شقاءً من خرج من ولاية الله.. اسم ( المولى ) ورد مطلقاً ومضافاً هذا الاسم ورد في القرآن الكريم، ورد مطلقاً وورد مضافاً، فالله عز وجل يقول: ﴿ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40) ﴾ ( سورة الأنفال ) وفي آية ثانية: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78) ﴾ ( سورة الحج ) ورد مضافاً: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) ﴾ ( سورة محمد ) وقوله تعالى: ﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) ﴾ ( سورة التوبة) الإنسان محتاجٌ إلى مولى: دققوا في قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40) ﴾ ( سورة الأنفال) أنت بحاجة إلى مولى، بحاجة إلى مرجع، بحاجة إلى مربٍّ، بحاجة إلى سند، بحاجة إلى من يدعمك، بحاجة إلى من تتوكل عليه، بحاجة إلى من يطمئنك، بحاجة إلى جهة قوية تحتمي بها من شرور أعدائك، هذا شيء طبيعي جداً في الإنسان، إلا أن المؤمن وصل إلى الإله الحقيقي، وصل إلى خالق السماوات والأرض، وصل إلى مَن بيده كل شيء، وصل إلى من بيده مصائر الخلائق، والله عز وجل ما أمرك أن تعبده إلا بعد أن طمأنك: ﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ (123) ﴾ ( سورة هود) لك مرجع، لك كتاب تقرأه، هذا حرام، هذا حلاب، لك إله تدعوه في الليل، لك إله عظيم تسأله فيجيبك، تستغفره فيغفر لك، تتوب إليه فيتوب عليك، لك مرجع، في حياتك منظومة قيم، هناك شيء حلال وشيء حرام، شيء ممكن وشيء غير ممكن، شيء مباح وشيء مكروه، شيء واجب وشيء مستحسن، أنت تعيش بمنظومة قيم، وهذا من فضل الله علينا. الله عز وجل يتولى أمرنا، وقد تضيق علينا الدنيا، وأحيانا تشح السماء، فيقيم المسلمون صلاة الاستسقاء، ويلجؤون إلى الله، أحياناً يأتي شبح مرض، هذا المرض سبب توبة نصوح، أحياناً يأتي شبح فقر، هذا الفقر يسوقنا إلى باب الله، بطولتك أن تفهم حكمة الله في المصائب، البطولة أن ترى حكمة الله في أفعاله، لأن الله عز وجل حكيم. كل شيء وقع أراده الله، وكل شيء أراده الله وقع، وإرادة الله متعلقة بالحكمة المطلقة، وحكمته المطلقة متعلقة بالخير المطلق. نعم المولى، فهو عليم، حكيم، قدير، وقعت في ورطة ـ لا سمح الله ولا قدر ـ إن دعوته أولاً فهو موجود، ثانياً يسمعك، ثالثاً قادر على أن يلبيك، رابعاً يحبك، فهو موجود وسميع، وقدير ورحيم. هذا ما يتمتّع به المؤمن الذي تولاّه الله: 1 – الأمن: المؤمن يتمتع بأمن لا يتمتع به أحد على الإطلاق، والدليل: ﴿ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) ﴾ ( سورة الأنعام ) لو أن الآية: أولئك الأمن لهم، أي لهم ولغيرهم، هذه البلاغة عبارة قصر وحصر. ﴿ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) ﴾ ( سورة الأنعام ) 2 – الحكمة: يتمتع المؤمن بالحكمة: ﴿ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا (269) ﴾ ( سورة البقرة) 3 – الرضى: يتمتع المؤمن بالرضى، فلذلك حينما يسوق الله الإنسانَ إلى بابه عن طريق مصيبة، أو شبح مصيبة، أو ضيق، أو عدو جاثم على صدره، أو شبح فقر، أو شبح مشكلة، فهذه في الفهم الإيماني نعمة باطنة: ﴿ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ﴾ ( سورة لقمان: 20) إذا كنت ضمن العناية المشددة فأنت في نعمة كبرى: وأقول لكم هذه الكلمة: حينما يتابعك الله عز وجل، وحينما يخضعك لتربيته فأنت في خير عميم، وأنت في نعمة كبرى، إذا كنت ضمن العناية المشددة فأنت في نعمة كبرى، لكن المصيبة الكبيرة أن يتابع الله نعمه عليك، وأنت تعصيه، المصيبة الكبيرة أن تكون خارج العناية الإلهية: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا (11) ﴾ ( سورة محمد ) أحياناً يشدد عليهم أحياناً يضيق عليهم أحياناً يسلط عليهم عدوهم. ﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِف طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ ( سورة القصص ) الآن دققوا: ﴿ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ﴾ ( سورة القصص ) لذلك إذا كنت ضمن العناية المشددة فالله يتولى أمرك، وإذا تولى الله أمرك فأنت في نعمة كبرى، في متابعة من ضمن الله عز وجل. إذا أخطأت جاء العقاب، أو أسرفت في الإنفاق جاء التقتير، أو استعليت على إنسان جاء التأديب الذي من نوع هذه المعصية فصار تحجيما، كإنسان تطاول عليك، لأن الإنسان حينما يتطاول على غيره الله يؤدبه من جنس الذنب. الخاتمة: الخلاصة: مادمت خاضعاً للعناية الإلهية فأنت في نعمة كبرى، لأن الله مولاك، نعم المولى ونعم النصير، هو مولانا، وعلى الله فليتوكل المتوكلون. ﴿ اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ﴾ ( سورة البقرة الآية: 257 ) فيا أيها الإخوة الكرام، هذا الاسم ( المولى ) من أقرب الأسماء للإنسان، ولي أمرك، يتولى شؤونك، ينعم عليك، يقتر عليك، يرفعك، يخفضك، يملأ قلبك طمأنينة، أو يملأ قلبك خوفاً، يتولى أمر جسمك، وأمر نفسك، وأمر مستقبلك، وأمر إيمانك، وأمر عقيدتك، وأمر علاقاتك، هذا التولي نعم المولى ونعم النصير. هذا الاسم أيها الإخوة الكرام، مرة ثانية، من أقرب الأسماء للإنسان، ولأن الإنسان عنده نقاط ضعف ثلاث ؛ خلق هلوعا، وكان عجولا، وخلق ضعيفاً، نقاط الضعف تستوجب أن يكون له سند قوي يلجأ إليه، يحتمي به، يستعيذ به، يتوكل عليه، يعتمد عليه، وهذا هو التوحيد، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد. إذا حاورت إنساناً فابْدَأ بحجةٍ قويةٍ لا ردَّ عليها إذا حاورت إنسانا فابدأ بحجة قوية أيها الأخوة المؤمنون،مع الآية الثامنة والخمسين بعد المئتين، وهي قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ يعلمنا ربنا عز وجل أنك إذا حاورت إنساناً فابْدَأ بحجةٍ قويةٍ لا ردَّ عليها، وسيدنا إبراهيم بدأ بهذه الحجة.. ﴿ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ﴾ جاء الملك برجلين، كما تروي الروايات، فقتل أحدهما وعفا عن الآخر، فالذي قتله أماته، والذي عفا عنه أحياه، هذا الملك المتألِّه، تأوَّل الحياة والموت على طريقة شرحها لمَن حاجَّه، لإبراهيم عليه السلام، فما دام متأولاً فالحوار لا ينتهي معه إلى يوم القيامة، والحوار بين متأولين لا ينتهي إلى يوم القيامة، أنا أقصد كذا وكذا، فأجابه الثاني: أنا أقصد كذا وكذا، نقاش مستحيل، الطريق مسدود، فلما تأوَّل هذا الملك المتألِّه أنَّ الإحياء هو العفو، والموت هو القتل، سيدنا إبراهيم لم يقصد ذلك، قَصَدَ أنّ واهبَ الحياة هو الله، وأنّ الذي ينهي الحياة هو الله، فالموت يحتاج إلى خلق، قال تعالى: ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾ [ سورة الملك: 2 ] فالحياة تحتاج إلى خَلق، والموت يحتاج إلى خَلق، والله جل جلاله الحيُّ القيوم هو حيٌ باقٍ على الدوام، يَهَبُ الحياة لكل مخلوق، (ربي الذي يحي ويميت). النبي إبراهيم عندما رأى الملك متأولاً جاءه بموضوعٍ غير قابل للتأويل : الله يحيي ويميت هذه الشجرة مَن أوْدع فيها الحياة؟ تكون في الشتاء يابسةً، فإذا جاء فصل الربيع وسقاها الله بالمطر العميم اهتزت وربت، أزهرت فأورقت فأثمرت، هذه الحياة، هذه البقرة مَن وهَبهَا الحياة؟ تأكل هذا الكلأ فتعطيك حليباً هو الغذاء الأول للإنسان، لكن حينما تموت البقرة تصبح جيفةً، ماذا فقدت؟ فقدت الحياة. إذاً، واهب الحياة هو الله، وخالق الموت هو الله، هذا الملِك المتألِّه تأوّل الحياة على أنها عفوٌ عن مقتول، والموت إيقاع القتل بالإنسان، ماذا فعل هذا النبي الكريم؟ لما رآه متأوِّلاً ترك الموضوع، وجاءه بموضوعٍ غير قابل للتأويل.. ﴿ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ﴾ قال: ﴿ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ﴾ أيُّ مؤمنٍ لا يكون إيمانه قوياً إلا إذَا كانت معه حجة أيها الأخوة؛ حينما يقول الله عز وجل: ﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهَِ ﴾ [ سورة الأنعام: 83 ] لابد كمؤمن أن تمتلك إجابة عن كل سؤال إبراهيم ذو حجة، قياساً على هذه الآية، وأيُّ مؤمنٍ لا يكون إيمانه قوياً إلا إذَا كانت معه حجة، وإذا لم يستطِع المؤمن أنْ يحاور كافراً، أو مدعياً بنظرية ما، معنى ذلك أنّ إيمانه ضعيف، فالمؤمن الذي لا يصمد أمام كافر إيمانه ضعيف، لا بد من أن تمتلك حجةً قوية، لا بد أن ترى الحقائق ناصعة، لا بد من أن تمتلك إجابة عن كل سؤال تقريباً حتى تكون مؤمناً، ما اتخذ الله ولياً جاهلاً، ولو اتَّخذه لعلَّمه. ﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾ [ سورة الأنعام: 83 ] رجل كان من علماء الرياضيات المُلْحدين في أمريكا، له قصة عجيبة، عكف على القرآن الكريم فقرأه، وبعد حوارٍ طويل مع نفسه أعلن إسلامه، وهو الآن داعية، وصار يصلي في المسجد بعد أن أسلم، رآه صديقٌ له غير مسلمٍ، فقال: ما هذه الصلاة التي تصليها، إنك تستمع إلى قراءة باللغة العربية، وأنت لا تفقه هذه اللغة، فما معنى صلاتك؟ فأجابه: إنّ هذا الطفل الذي ولد لتوِّه، يشعر بنشوةٍ حينما تضمُّه أمُّه إلى صدرها، فماذا يفهم من لغة أمِّه؟ إنّه لا يفهم شيئاً، والمؤمن إذا أوى إلى المسجد، وإذا أوى إلى الله عز وجل، فكما يأوي هذا الطفل الصغير إلى صدر أمه، فأسكته بهذه الحجة، رآه بعض أصدقائه يصلي في الصيف، والكتف إلى الكتف، فقال له زميل له معترضاً: الجوُّ حارٌّ لِمَ هذا الالتصاق ببعضكم بعضاً، تباعدوا؟ قال: إن الله عز وجل يحب أن نكون متصلين به، وفي الوقت نفسه نشعر بمَن حولنا، واللهُ يحبُّ أنْ يعيش الإسلامُ مع المجتمع. أنا ما قصدت من هذين المثلين أن يكونا مثلين صارخين، ولكن مِن المستحيل أن يؤمن الإنسان إيماناً حقيقياً إلا ويهبه الله عز وجل الحجة، يهبه الحجة القوية، فإنسان مؤمن لا يصمد أمام مبتدع، أمام مُنكر، أمام إنسان شارد، إنسانٌ ليس معه حجة، ما هذا الإيمان؟!! أنت مع الله، أنت مع العليم، أنت مع الحكيم، لا بد من أن تكون لك حجة تدلي بها. الله عز وجل علّم الإنسان كيف يجري الحوارَ بالبحث عن حجةٍ لا تُؤَوَّل : قال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ﴾ التقيت مرة بإنسان من اليابان، حدثته عن هذا الدين، قال: إن الله ظلمنا، لأن هذا الدين باللغة العربية، ونحن ولدنا في اليابان ولا نفقه من هذه اللغة شيئاً، إذاً نحن قد ظُلِمنا، قلت له: لماذا تعلمت اللغة الإنجليزية؟ قال: من أجل التجارة، قلت: إذا أردت الحقيقة، وأن تصل إلى الجنة فتعلَّمْ اللغة العربية كذلك، فأنتَ من أجل كسب المال تعلَّمتَ لغة أخرى. إنسان يقول لك: هناك مفتٍ أفتى لي في هذا الموضوع، أقول له: لو أن عندك بيتاً هل تبيعه لأول مشتري، أم تسأل أناساً كثيرين؟ لماذا اكتفيت بهذه الفتوى؟ فما مِنْ حجة يأتي بها أهل الدنيا إلا وهناك حجة تدحضها وتردُّها. أيها الأخوة... على كلٍّ فقد علّمنا الله عز وجل كيف نجري الحوارَ، ابحث عن حجةٍ لا تُؤَوَّل، عن حجة لا تُرَدُّ.. ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ*﴾ موسوعة النابلسي للعلوم الاسلامية |
![]() |
![]() |
![]() |
#57 |
مشرفة قسم القرآن
![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() |
![]() قصة عزير: " عزير " رجل صالح من بني إسرائيل ، لم يثبت أنه نبي ، وإن كان المشهور أنه من أنبياء بني إسرائيل ، كما قال ابن كثير رحمه الله في "البداية والنهاية" (2/389) . وقد روى أبو داود (4674) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( مَا أَدْرِي أَتُبَّعٌ لَعِينٌ هُوَ أَمْ لَا ؟ وَمَا أَدْرِي أَعُزَيْرٌ نَبِيٌّ هُوَ أَمْ لَا ؟ ) وصححه الألباني في "صحيح أبي داود" . قال الله عز وجل: ﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا ﴾ قال بعض المفسرون: إنه سيدنا عزير أحد أنبياء بني إسرائيل، مرّ على قرية، وقالوا: هي القدس، وهي خاوية على عروشها، دمرت هذه المدينة وهجرها أهلها، ولم يبق منها إلا الهياكل، أنقاض، فقال سيدنا عزير: ﴿ قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ قرية مهدمة، أنقاض، بيوت متداعية، كيف يُعاد بناءُ هذه القرية؟ فقال الله عز وجل: ﴿ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ﴾ قالوا: إنه مات بعد شروق الشمس، وبُعِثَ قُبيل غروبها.. ﴿ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ ﴾ تصور أنه نام بعد الشمس، واستيقظ قبل غروب الشمس.. ﴿ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ﴾ قال: لبثت يوماً، فلما رأى الشمس لم تغب بعدُ، قال: أو بعض يوم، وقد لبث مئة عام. الآية التالية من آيات الدالة على عظمته : قال الله له: ﴿ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ﴾ طعامك الذي كان في حوزتك، وشرابك الذي كان في حوزتك هو هو؛ طازجٌ بخضرته، وزهوته، وطراوته، وكل صفاته التي تركته عليها. ﴿ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ ﴾ حمارهُ كومةٌ من العظام.. ﴿ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ ﴾ عظام الحمار.. ﴿ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً ﴾ هذه العظام تجمَّعتْ، وتشكَّلتْ، وتراكبت فكانت هيكلاً كاملاً، ثم جاء اللحم فكساها، وجاء الجلد فكسا هذه العضلات، وهذه آية من آيات الدالة على عظمته. أخواننا الكرام؛ في تفسير هذه الآية لا بد من توضيح، هذا الكون كون مُعْجِز بوضعه الراهن، وفق قوانينه، وفق سننه، وفق معطياته، كون معجز، وهو يدل على الله عز وجل دلالة ما بعدها دلالة، ولكن لحكمة أرادها الله عز وجل جَعلَ بعض آياته في خرق هذه القوانين، هذا الكون من دون أن تخرق قوانينه معجزة، هذا الكون في وضعه الراهن معجزة، وإذا خرقت قوانينه معجزة، وخرق العادات لا يقبل عادةً، لأنّ الإنسانَ لم يألفه، لكنه يقبل عقلاً، لأن الذي خلق هذه القوانين هو الله، والذي قنَّنها هو الله، والله عز وجل في أيّة لحظةِ يعدِّلها أو يبدِّلها أو يغيِّرها. اليقين الاستدلالي واليقين الشهودي : اليقين الاستدلالي: رؤية دخان واليقين الشهودي: رؤية النار يقول الله عز وجل: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى ﴾ الحقيقة سيدنا إبراهيم عليه السلام مؤمن، ومؤمن إلى درجة اليقين، ولكن اليقين أنواع؛ نوع استدلالي، ونوع شهودي، أنت إنْ رأيتَ دخاناً وراء جدار، تقول: لا دخان بلا نار، أنت متأَكِّدٌ من وجود النار خلف الجدار، هذا يقين استدلالي، فإذا وقفت في الطرف الآخر من الجدار، ورأيت النار بعينك، هذا يقين شهودي، فسيدنا إبراهيم متيقنٌ يقيناً استدلالياً، لكنه الآن يريد اليقين الشهودي.. ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ بعضهم تأوَّل هذه الآية: بأن هذا النبي الكريم من شدة محبّته لله، أراد أن يرى أثر فعل الله عز وجل، وكأنه تمنَّى أن يرى عظمة الله من خلال هذه الآية، وليس شاكّاً في قدرة الله، ولا في علم الله، ولا في حكمة الله، ولكنه تطلَّع إلى أن يرى أثر قدرة الله عز وجل.. أي كي ينتقل من يقينِ الاستدلال إلى يقين المعاينة، من يقين الاستدلال إلى يقين الشهود. معجزة النبي عليه الصلاة والسلام معجزةٌ مستمرةٌ إلى يوم القيامة : قال تعالى: ﴿ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ﴾ أي قطعهن قطعاً قِطعاً.. ﴿ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ﴾ طاووس، ودجاجة، وما إلى ذلك، أربعة أنواع من الطيور، قطعها قطعاً قطعاً، وجعل على كل قمة جبل بعض هذه القطع، قال: ﴿ ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ فلما دعاهن، تراكبت هذه الأعضاء، والتحم بعضها ببعض، وسرن إليه خاضعين لأمر الله عز وجل. مرة ثانية هذه المعجزات وقعت مرة واحدة، ولن تقع مرة ثانية، شبَّهها بعض علماء التوحيد كعود الثقاب تألق مرة واحدة ثم انطفأ، فأصبح خبراً يصدقه مَن يصدقه، ويكذّبه مَن يكذّبه، ولكن أي مؤمن يقرأ كلام الله عز وجل يؤمنُ إيماناً راسخاً أن هذا الخرق قد وقع، وهناك مَن يكذِّب بهذا لأنه ما عرف الله عز وجل، وأنّ أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون، رأى أن هذا غير مألوف عادةً فأنكره، ولكن الشيء الذي كرمنا الله به هو: أن معجزة النبي عليه الصلاة والسلام معجزةٌ مستمرةٌ إلى يوم القيامة فهذا الكتاب بين أيدينا، فيه آيات كثيرة لا يمكن أن تفسَّر إلا بحالةٍ واحدة؛ أنها آيات من عند الله. في الآيات التالية إشارة إلى إعجاز القرآن الكريم : الضغط داخل الطائرة أكبر ثماني مرات من خارجها مَن هذا الذي صعد إلى الفضاء الخارجي، وضاق نفسه؟ الله جلّ جلاله أخبرنا: ﴿ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ﴾ [ سورة الأنعام: 125 ] بعد أن ركب الإنسان الطائرة، لو أن طائرة تركبها، وجهاز ضخ الهواء فيها تعطل، هبط الضغط إلى الثمن، عندئذٍ يخرج الدم من أنف الإنسان ويختل ضغطه، ويشعر بضيقٍ لا يحتمل، الطائرات التي نركبها الآن مضغوطة ثماني أضعاف، ليكون الضغط على ارتفاع أربعين ألف قدم مساوياً للضغط على الأرض، لو أن جهاز الضغط تعطل، لأحسَّ الركاب بضيقٍ في نَفَسهم لا يحتمل، هذا عرفناه الآن بعد اختراع الطائرة، لكن كيف جاء ذكره في القرآن الكريم؟ قال العليم الخبير: ﴿ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ﴾ [ سورة الأنعام: 125 ] بعد أن اخترعنا أشعة الليزر، وقسنا غور فلسطين رأيناه أعمق نقطة في الأرض، وذلك منذ عشرين سنة أو عشر سنوات، لكن حينما يقول الله عز وجل: ﴿ غُلِبَتْ الرُّومُ*فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُون*فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ ﴾ [ سورة الروم: 2-4 ] المعركة تمت في غور فلسطين ﴿ غُلِبَتْ الرُّومُ*فِي أَدْنَى الْأَرْضِ ﴾ هذا أيضاً إشارة إلى إعجاز هذا القرآن الكريم. كل التقدم العلمي لم يستطع أن يهز آية واحدة لأنها من عند خالق الأكوان : قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ هذه معجزةٌ حسية، وحمار سيدنا عزير معجزةٌ حسية، ولكن هذا القرآن كله معجزة عقلية بيانية، وبإمكانك أن تكتشف كل حين أن هذا كلام الله عز وجل لأن البشر لا يستطيع أن يأتي بهذا الكلام، تقرأ أنت: ﴿ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ﴾ [ سورة النحل: 8] إنسان عاش قبل ألفٍ وأربعمئة عام؛ هناك الخيل، والبغال، والحمير، لو أن هذا القرآن كلام بشر، لكانت الآية: ﴿ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ﴾ [ سورة النحل: 8] فقط، أما إنسان يعيش في هذا العصر؛ هناك طائرات، وهناك طائرات عملاقة، وبواخر، وحوَّامات، وقطارات، ومراكب فضائية، قال تعالى: ﴿ وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [ سورة النحل: 8] إذاً هو كلام الله عز وجل، كل التقدم العلمي لم يستطع أن يهز آية واحدة، لأن هذه الآيات من عند خالق الأكوان، الذي خلق الأكوان هو الذي أنزل هذا القرآن. كلما تقدَّم العلم كشف جانباً من إعجاز القرآن الكريم : نسبة دماغ الإنسان إلى جسمه أعلى نسبة أيها الأخوة الكرام؛ حينما نبحث في إعجاز القرآن العلمي، كأننا نضع أيدينا على معجزاتٍ رائعة.. ذات مرة قرأت هذه الآية: ﴿ كَلا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ*نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ﴾ [سورة العلق: 15-16] يوجَد في رأسِ الإنسان دماغ، ونسبةُ هذا الدماغ إلى الجسم أعلى نسبة في المخلوقات قاطبةً، لو أخذنا دماغ الحوت الأزرق، نسبة وزن الدماغ إلى وزن الحوت قليلة، لو أخذنا دماغ الفيل، دماغ وحيد القَرن، دماغ الكركدن، نسبة وزن دماغ أي حيوان إلى جسمه نسبة ضئيلة، أما أعلى نسبة على الإطلاق هي نسبة وزن دماغ الإنسان إلى الإنسان، هذا الدماغ فيه فصٌ جبهي، وهو أضخم الفصوص، في هذا الفص الجبهي تتم المحاكمة، ويتم الحكم، ويتم الاستنباط، ويتم الاستنتاج، ويتم اليقين، والإنسان هنا يتحرك، تتم الإرادة هنا، إنسان أراد أن يسرق، تبدأ السرقة من فصه الجبهي، أراد أن يزني، يبدأ الزنا من فصِّه الجبهي، يقرر فيفعل، هذا الفص الجبهي اسمه الناصية، ناصية الرأس مقدمته، قال الله عز وجل: مركز الكذب في الناصية من الفص الجبهي ﴿ كَلا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ*نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ﴾ [سورة العلق: 15-16] فالكذب من الفص الجبهي، والخطأ من الفص الجبهي، والحديث عن معجزات القرآن الكريم العلمية حديث طويل، بل كلما تقدَّم العلم كشف جانباً من إعجاز القرآن الكريم. العقل أودعه الله فينا كمقياس علمي والفطرة جبلنا عليها كمقياس انفعالي : أيها الأخوة الكرام، ليس هناك من مانع أن نتأثر بالمعجزات الحسية التي ورد ذكرها في القرآن الكريم، كقوله تعالى: ﴿ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ ولا مانع من أن نتأثر بالغ التأثُّر بقصة سيدنا إبراهيم عليه السلام: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ وليس هناك من مانعٍ أيضاً أن تقرأ عن إعجاز القرآن العلمي، فتشعر أن هذا الذي خلق الأكوان هو الذي أنزل القرآن، وأن هذا القرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ومستحيلٌ وألف ألف مستحيل أن تأتي حقيقةٌ علمية تنقض آية في القرآن الكريم، لأن هذا القرآن كلامه والكون خلقه، والعقل أودعه فينا كمقياس علمي، والفطرة جبلنا عليها كمقياس انفعالي، وهكذا نجد أن القرآن الكريم كلام الله المعجز إلى أبد الآبدين. موسوعة النابلسي للعلوم الاسلامية |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
|
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
|
![]() |
![]() |
![]() |
|
|
![]() |
||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
د.محمد راتب النابلسي - تفسير سورة الفاتحة | امانى يسرى محمد | قسم تفسير القرآن الكريم | 6 | 09-20-2025 06:53 PM |
برنامج قصص الصحابة للدكتور محمد راتب النابلسي | عادل محمد | ملتقى الكتب الإسلامية | 1 | 06-04-2020 10:37 PM |
د : محمد راتب النابلسي: (إحدى عشر حقيقة لابد أن تعرفها) | الزرنخي | ملتقى الحوار الإسلامي العام | 2 | 07-01-2017 05:25 PM |
اسطونة تفسير الدكتور محمد راتب النابلسى كامل تقلب صفحاته بنفسك | الشيخ ابوسامح | قسم الاسطوانات التجميعية | 2 | 08-11-2016 07:04 PM |
اسطوانة تفسير الدكتور محمد راتب النابلسي للقرآن الكريم | عادل محمد | قسم الاسطوانات التجميعية | 1 | 08-11-2016 06:57 PM |
|